أحمد اليبوري : اعتراف ووفاء

24 مشاهدة
admin
مقالات
أحمد اليبوري : اعتراف ووفاء

 

أحمد اليبوري : اعتراف ووفاء

سعيد بنگراد

 

تغمرني الآن سعادة كبيرة وأنا أكتب هذه السطور احتفاء بأستاذنا أحمد اليبوري. لم أتشرف بأستاذيته بشكل مباشر، ولم أحتك به كثيرا، ولكنّه كان دائم الحضور في المشهد الثقافي الذي كنا نتعلم كيف ننتمي إليه. كنا نعود إلى تراثنا الفكري وكان هو مقيما فيه. كانت الرغبة عندنا كبيرة في التغيير، وكان فيها الكثير من الاندفاع والمزاعم في قول “الحقيقة”، وكان هو يزن الخطى ويتريث ويقبل ويرفض وينتقي. لم يكن غُفلا مثلنا، كان يجر وراءه تجربة كبيرة في التدريس والتأطير والفعل الثقافي المدني.

لم يكن مهووسا بالنظريات النقدية الجديدة التي كانت تتسلل في تلك الفترة، الثمانينيات، إلى رحاب الجامعة في المغرب وفي كل الفضاء الثقافي المغاربي، ولكنه كان يعرف أيضا أن فضل هذه التصورات على النص سيكون كبيرا، فهي التي ستحوله من مجرد وثيقة، سياسية أو إيديولوجية، تُستعمل ضد الأنظمة السياسية، إلى ما يمكن أن يؤسس وعيا حضاريا يشكل النقد الأدبي داخله واجهة من واجهات الفكر التحرري. فلم تكن الجامعة يومها منفصلة عن هموم الوطن وقضاياه في الديمقراطية وكرامة المواطن. كان مسؤولا إداريا (عميدا) من طراز خاص في الكلية في فاس، ولذلك عانى من التضييق والتهميش.

لقد كان انتقاله مرنا من التيارات النقدية الإيديولوجية والتاريخية إلى ما كانت تقترحه البنيوية والسميائيات. وقد تكون هذه المرونة هي التي جعلت مقترحاته في نقد الرواية بالغة الغنى، كما يشهد على ذلك التعدد النظري الذي كان يوجه دراساته، وتؤكده المناطق الجديدة التي كان يكشف عنها خارج شقشقات لفظية لا تسمن ولا تغني النص في الكثير من الأحيان. وذاك ما جنبه الاستغراق في مصطلحية كانت في تلك البدايات رمزا لحرية لم تقد أبدا إلى التحرر من القيد التقليدي في الفكر.

سيكون من الأوائل مع الأستاذ محمد برادة ومحمد مفتاح وسيلتحق بهم بعد ذلك سعيد يقطين وحسن بحراوي وغيرهما، من الذين أشاعوا في الجامعة المغربية رؤى نقدية جديد كانت تنهل جميعها بشكل مباشر مما كانت تنتجه المدرسة الفرنسية في مجال النقد الأدبي. حدث ذلك في كلية الآداب بالرباط أولا، وانتشرت بعد ذلك في كل الجامعات الجديدة التي تأسست في الحواضر الكبرى للبلاد. وليس غريبا أن يكون من المؤسسين البارزين للدراسات العليا في الجامعة المغربية. فمن هذه الدراسات سيتخرج الكثير من النقاد الذين تابعوا الدروس التي كان يلقيها هو ومجموعة أخرى من الأساتذة.

وهذا ما أثبته في دراساته المتعددة التي نشرت في كتابين على الأقل، “دينامية النص الروائي”، وبعده كتاب “في الرواية العربية، التكون والاشتغال”، وهما عملان رائدان في مجال النقد الروائي الجديد. لقد أصبح الفعل النقدي عنده موجها للإمساك بأمور أخرى غير ما تقوله الإيديولوجيا بشكل صريح، فالنص ناطق في تفاصيله، لا في بنية كبرى مفترضة كثيرا ما كانت تقود إلى إصدار أحكام عامة تغيب النص وتنتصر للمواقف المسبقة.

فما كان يستهوي الأستاذ أحمد اليبوري في النص ليس وحدة شاملة مزعومة، كما كانت تتصور ذلك الرؤى الإيديولوجية السائدة في فترة السبعينيات، بل أجزاء تؤكد تشظي وتفكك النص انعكاسا لتفكك التجربة الإنسانية ذاتها. إن النقد ليس كشفا لمعنى استنادا إلى حدس لا يتمتع به إلا قلة من الناس، بل هو في المقام الأول صياغة جديدة للقصدية التي ولدت مع القراءة، وذاك ما يسميه الدينامية التي لا تقود إلى وضع اليد على معنى جاهز، بل تقتفي آثار النص في حالات تفاعله مع قارئه.

وقد أثبت من خلال كل إنتاجاته في ميدان تحليل الرواية أن النقد إنتاج لمعرفة لا يمكن أن تستقيم دون استنفار ثقافة هائلة هي أساس تحليل النص وفهم العوالم الدلالية القريبة والبعيدة التي يشير إليها. فالتحليل ليس شرحا لكلمات عابرة في ذاكرة النص، وليس كشفا عن سر دلالي لا يهتدي إليه إلا الحاذق من النقاد، بل هو إعادة لتنظيم قصديات لا تُرى من خلال الظاهر، أو هو الكشف عن علاقات غير مرئية من خلال التجلي المباشر للنص، ما كان يسميه مبدأ الملاءمة. إن قول ما يرتضيه المبدع ويستحبه لا ينتج نقدا ولا يدخل ضمن الممارسة النقدية الجادة التي هي جزء من الحركة الفكرية للأمة. إنّ الناقد لا يرمم آلة، ولا يرقع حذاء، إنه يدخل إلى نص حافل بالإحالات المتعددة الأصول والمشارب هي ما يشكل روح الأمة ووجدانها.

لقد نبذ الأحكام الإيديولوجية، ولكنه لم يتحول إلى ميكانيكي يفكك النصوص بعيدا عن انتمائها إلى موسوعة هي ما يصدق على مضمونها. لقد كان يقدم للناس مقاربة فيها التقنية العلمية، ولكنها لم تتخل أبدا عما يجعل النص بؤرة لإنسانية تُبنى في الرموز، ويُعاد إنتاجها وفق ما يجب أن يكون لا ما هو كائن. لذلك كان وما يزال وسيظل إنسانا في سلوكه وفي مواقفه وفي الفكر الذي يدعو إليه. لم تكن قراءة النصوص عنده “مهنة”، بل كانت إسهاما في إرساء دعائم مجتمع يتمتع فيه الناس بالحرية والكرامة.

الاخبار العاجلة