مدارات اللغة بين الفصيح والعامي

124 مشاهدة
admin
مؤلفات
مدارات اللغة بين الفصيح والعامي

 

 

مقدمة

 

يتناول هذا الكتاب، بفصوله الستة، مجموعة من القضايا الخاصة باللغة عموما وباللغة العربية ورديفاتها اللهجية على وجه الخصوص. وهو عبارة عن دراسات نؤكد فيها فرضيات أكثر مما نصوغ أخرى جديدة. ومع ذلك، فإن هذا التأكيد له ما يبرره في طبيعة السجال الذي عرفته بلادنا وبلاد الجوار الناطقة بالعربية حول ضرورة تبديل العربية المعيارية بلهجات محلية. ذلك أن طبيعة اللغة ووظيفتها وموقعها في الحياة ليست من بداهات الوجود في تصورات عامة الناس وفي تصور بعض خاصتهم أيضا. فكثير من المتكلمين ليسوا معنيين بمعرفة ما تمثله اللغة في حياتهم، كما لا يكترثون للوظيفة التي يمكن أن تقوم بها، فهم يستعملونها في غفلة من أسرارها، إنها لا تختلف عندهم في شيء عن مجموع الوظائف البيولوجية التي تحرك الإنسان وتتحكم في موته وحياته.

وكثير منهم أيضا لا يتعامل معها سوى باعتبارها أداة عرضية يمكن تبديلها بأخرى، أو يمكن التخلص منها بعد الاستعمال دونما تشويش أو ضرر قد يلحق الكينونة أو يقلص من العوالم التي تأتيها من خارجها. فاللغة في تصور هؤلاء جميعا هي مجرد أداة خارجية تأتي إلى الذات بعد الولادة كما تأتي إليها الأحلام والرغبات العابرة. فالأساسي في التبادل الاجتماعي والحوار الإنساني ليس لغة تُعيد بناء العالم في مستويات بالغة التجريد، بل في ما يمكن تبادله من أشياء على مستوى الحاجات المباشرة وغير المباشرة.

وقد يكون هذا التصور من الأسباب التي يقدمها الإشهاريون في المغرب لتبرير اعتمادهم الدارجة أداة للإقناع. فهم يعرضون “بضاعة” صامتة يُمكن أو يجب أن يتلقاها المستهلك بلغة “محايدة” تكتفي في الغالب بتفسير دواعي الاستعمال والغاية والمنفعة المرجوة منها، أما ما يمكن أن تحيل عليه هذه البضاعة من انفعالات دفينة لا يُدركها الناس بشكل مباشر، فلا يُشكل مبررا كافيا للاعتناء بلغة العرض، فهم يخاطبون شعبا يعيش بالحس وحده ( الفصل الخامس).

والحال أن اللغة ليست من هذه الطبيعة، ولا يمكن اختصار وظيفتها في توجيه الكائن البشري إلى التعرف على عالم موجود في ذاته. فنحن لا نستحضر هذا العالم من خلال أصوات تضع الأشياء أمام الحواس، بل نُدرك سرها بواسطة كلمات لا تستوعب وجودا جاهزا فحسب، بل تُضَمِّن التعيين والتسمية موقفا ورؤية وتصنيفا أيضا. إن الإنسان ذاته ليس سوى التمثلات التي تستوطن اللغة وتعشش في كل مستوياتها. لذلك كان الوجود هو اللغة ذاتها، فالأشياء والكائنات التي تستوطن اللغة لا تموت أبدا، وتلك أيضا حالات انفعالات الناس. ” فنحن لا ننطلق من اللغة وإنما نعود إليها” (هايدغر).

بعبارة أخرى، إن اللغة ليست بديلا عرضيا عن عالم موجود في مادياته وحدها، وهي أيضا ليست غلافا عابرا “لفكر جاهز، بل هي الأداة التي يتخذ من خلالها هذا الفكر شكلا” (كاسيرير)، فما يتسلل إلى وعي الناس ويستوطن ذاكرتهم ليس ماديات الأشياء وظواهره وسلوك الكائنات ومواقفهم، بل الوجه المفهومي الذي يكشف عن مضامينها. هناك عوالم أخرى تُبنى في التمثيل الرمزي تكون في الغالب أشد وقعا من حقائق الوجود الفعلية.

وهو ما يعني أن اللغة لا تتميز بتركيبها ونظامها الصوتي والدلالي فحسب، بل تتميز أيضا بنوعية مفرداتها وقدرتها على إعادة بناء الواقع داخلها وفق قوانينها هي لا وفق مظاهر الأشياء الموصوفة. ذلك أن المعرفة ذاتها ليست كَمَّا مفهوميا مفصولا عن اللغة، إنها على العكس من ذلك، سيرورة فكرية موجهة نحو غاية هي محاولة مثلى لتقديم وصف لفظي للواقع. إنها تجميع لمعارف تعود إلى وقائع الحياة والطبيعة وتكثيف لها، وهي أيضا رصد لمجمل الروابط الممكنة بين الناس ومحيطهم. ولهذا السبب لا يمكن اختصار قيمة اللغة في نشاط تواصلي من طبيعة نفعية عابرة، إن قيمتها الحقيقية مودعة في قدرتها على استيعاب هذه الوقائع ووصفها وتحليلها استنادا إلى المتاح المعرفي والثقافي المعاصر ( الفصل الثاني).

وذاك أيضا جزء من طبيعة الهوية ومكون من مكوناتها، فهي تنمو وتتطور وتتنوع في لغة تُبدع قيما جديدة؛ وبذلك لن تكون مجرد حارس أمين لما أنتجه السابقون فقط، كما يُصر على ذلك بعض حماتها. وهي صيغة أخرى للقول، إن مردودها الحقيقي يكمن في قدرتها على تجديد النظر في العالم وإبداع صور متطورة عنه تستجيب للحاجات الجديدة. فطبيعة الإبدال الحضاري الجديد لا يدعو إلى “تحصين ” الذات داخل زمنية تخصها وحدها، بل يقتضي في المقام الأول تأهيلها بما يُمَكنها من استيعاب ما يأتيها من خارجها استنادا إلى طاقات لغتها وخصوصية الإرث الحضاري الذي يتجلى فيها ومن خلالها. لسنا خارج الزمنية الإنسانية، فتاريخنا جزء من هذه الزمنية، ونحن من يجب أن ينتمي إليها اعتمادا على لغتنا وإرثنا الحضاري بكل مكوناته وروافده، فالشعوب الناجحة هي تلك التي استفادت من المردود العلمي للغات الأجنبية، ولكنها حصنت ذاتها بلغتها أو لغاتها الوطنية (الفصل الأول).

وهذا هو مصدر الخطورة التي يمثلها التلهيج. ذلك أن الغاية من الدعوة إلى استعمال الدارجة في التدريس، ليست مجرد استبدال لغة بأخرى، بل هو ما يمهد الطريق نحو التخلص من العربية لصالح لغات أجنبية، تكون هي أداة التبادل التجاري والمالي بين مركز “متخم” بالحضارة، وبين محيط يكتفي باستيراد نماذج جاهزة لم تنتج لحد الآن حداثة حقيقية، وإنما عوضتها بـ”تحديث” براني أفرز “كائنات استهلاكية” ظلت دائما مشدودة إلى القيم التقليدية في تدبير كل شيء في حياتها.

وذاك مصدر الحاجة أيضا إلى وضع العربية في احتكاك دائم مع الوقائع المادية والقيمية التي تتسرب إلى محيطها، فاللغة كيان حي في الناطقين بها. لذلك عليها أن تستوعب روح ما تسمي وتصف، فمردودها يتحقق في قدرتها على قراءة ما يفرزه محيطها ( الفصل السادس). يجب أن تتعلم لغتنا كيف “تفكر” في لغات أخرى، كما يتحقق ذلك في الترجمة، وكما يتحقق أيضا في استنبات العلوم الحديثة داخلها عبر نحت مفاتيح هي من صلبها ومن صلب التأمل الفكري فيها. فاللغات لا تصف وتسمي فحسب، إنها تفكر في نفسها وفي موضوعها في المقام الأول.

وذاك بعض من مكر التاريخ أيضا، فقد كان ذاك وضعها مع بدايات الوعي القومي الجديد. لقد “استيقظت بدافع حب أبنائها، ولكنها وجدت نفسها وسط عالم لم تعرف كيف تصفه فوقفت مشدوهة، كان عليها أن تؤدي ثمن رقادها الطويل، تتطور بسرعة لكن العالم المحيط بها يتطور بسرعة أكبر”]. وهذا ما يحتم اليوم على الناطقين بها إنتاج الفكر داخلها وفق ممكناتها ووفق المتاح الحضاري الإنساني، فالعربية لن تتطور بفصلها عن اللغات العالمية.

لذلك، لا يتعلق الأمر من وراء هذه الدعوة باختيار يروم استنبات نموذج حضاري جديد تبنيه لغة “عالمية”، كما يوهمون الناس بذلك، بل هو في أصله بحث عن “ربح اقتصادي سريع” بذهنيات استهلاكية مطواعة. فقد تكون اللغة الإنجليزية هي لغة العلم، بل وهي لغة الحضارة المعاصرة أيضا، ولكن هذا لا يدعو الناس إلى التخلي عن لغاتهم الوطنية، فاللغات لا تُستورد كما تستورد البضائع، والازدواجية هي إغناء للذات لا استلابها داخل ما نما وترعرع خارج ثقافتها. إن امتلاك العلم لا يُحتم علينا أمْرَكة محيطنا وأذهاننا، إنه يساعدنا على التعرف على الآخر في لغته وهو وسيلتنا أيضا لعرض الذات الخاصة في لغة الآخر.

إن سلوك الداعين إلى الدارجة شبيهٌ بسلوك التاجر، فعلى عكس “الصناعي” الذي يستثمر على المدى البعيد في الإنسان والآلة، فإن التاجر لا يقوم سوى بمبادلة المال بالمال، أي مقايضة بضاعة جاهزة بمقابل مالي مباشر لا تأثير له في الذات ولا في محيطها: يكفي استيراد لغة جاهزة من الخارج لنحدث ثورة في الاقتصاد والصناعة ( لقد تبنت نيجيريا الإنجليزية لغة وطنية لها، ولكنها ظلت مع ذلك تجمعا لقبائل لا رابط بينها، وذاك سر تخلفها وسر التطاحن بين قومياتها وعقائدها).

إن الكفاف ليس في متاع الدنيا فحسب، إنه في اللغة التي نستعملها للاستجابة إلى حاجاتنا أيضا. فاللغة لا توجد من خلال ما “يوحد بين الناس” فقط، بل تستمد قيمتها من قدرتها على التمييز بينهم أيضا؛ تمييز المتعلمين من غير المتعلمين، وتمييز الأذكياء عن الأغبياء، وتمييز المتحضرين عن المتخلفين. بعبارة أخرى، إن النفعي مشترك بين كل الناس، أما المتعة فقيمة مخصوصة، إنها تفصل بينهم، ذلك أن الوجدان ليس مساحة عذراء تبنيها الفطرة وحدها، بل هو حاصل سيرورة تعلم واحتكاك مع آخرين منا أو من غيرنا تلعب فيه اللغة دورا مركزيا ( الفصل الرابع).

وتلك وظيفة المدرسة، إنها ليست تلقينا لمعارف ” بكر”، أو تعليما للكتابة والقراءة فحسب، بل هي في الأساس طريقة مهذبة لتقديم العالم إلى ناشئ يستهويه، في مراحل عمره الأولى، حس الأشياء، أكثر مما تستقر ذاكرته على مفهوم يدل عليها. فإما أن نقدم إلى المتعلم عالما غنيا متعددا واسعا يساعد الذهن على التفتح واستيعاب تعددية الوجود في الطبيعة والأفكار والمعتقدات، وإما أن يظل هذا العالم عنده وثيق الصلة بما يمكن أن يمليه العيش الحافي وحده.

بعبارة أخرى، هناك، فيما هو أبعد من الوجود الوظيفي، متعة الفضاء الروحي، يتعلق الأمر بإحساس لا يتحقق من خلال ما يعين أو يسمي، بل من خلال ما يوحي أيضا. ولقد كانت الدارجة، في الكثير من استعمالاتها، مشدودة دائما إلى حالات البقاء هاته. وهي صيغة أخرى للقول، إن الذاكرة الدلالية قصيرة في التعبير الدارج، فإكراهات التواصل الشفهي المباشر يُقلص من مدى هذه الذاكرة ويوجهها إلى الحاضر أمام الحس، لا المتواري في دهاليز النفس والوجدان (الفصل الثالث).

وهذه الحقائق مجتمعة هي التي تدفعنا إلى القول إن “الاحتفال” وحده لن يحمي العربية مما تتعرض له يوميا من إقصاء، كما أن تهميشها والنيل منها لن يقود، كما يتوهم البعض، إلى صرف الناس نظرهم عنها وسعيهم إلى تعلم لغات جديدة تكون هي نافذتهم على العلم والحداثة والتحديث. إن الأمر على خلاف ذلك، فقد يقود هذا الإقصاء إلى المزيد من إفقار العالم وإفقار الذات وعرضها على محيطها بدون حماية “مفهومية” متطورة تمكنها من وعيه بطريقة فضلى (انتبهوا جيدا إلى لغة الشباب وفقرها المتزايد، وستُدركون السر في تنامي ظاهرة العنف في الشوارع).

استنادا إلى كل ذلك لا قيمة للاحتفال بعيد خاص بالعربية، إذا كانت الممارسة اليومية تدفع بها يوميا إلى التخلي عن مواقع ستحتلها في الغالب لغة حسية بلا مردود علمي. لذلك قد لا يكون الاحتفال، في الكثير من الحالات، سوى طريقة مهذبة لدعوة المحتفى به إلى الانسحاب من فضاء لم يعد له مكان فيه، تماما كما نفعل ذلك مع الرياضيين والأبطال القدامى والمتقاعدين حين نكرمهم ونشكرهم على ما قدموه لنا في ” الماضي”. فهؤلاء جزء من زمنية ولت ولن تعود أبدا.

إن العربية في حاجة إلى قرار سياسي يعيدها إلى فضائها الحيوي الذي فقدته، أو فرضوا عليها التخلي عنه، فاللغة تحيا بدينامية “الوسط” الذي يحتضنها وتكون هي واجهة من واجهاته الرئيسة. تماما كما تكبر وتتطور من خلال قدرتها على استيعاب المنجز الفكري المعاصر وفق طاقتها في التقطيع وإعادة صياغة الكون من خلال مفهمة تنمو مع نمو الحاجات وتنوعها. فلا يمكن للغة أن تستمر في الوجود إذا كانت غريبة عن محيطها. يجب أن نعي هذه الحقيقة لكي نتدارك الخصاص الذي تشكو منه. علينا أن نؤهلها بأن نفتحها على محيطها وعلى علوم العصر بتنشيط ذاكرتها، فنحن لا نعرف إلا القليل مما تحتويه العربية.

وسيكون المبدعون بالعربية في العلوم وفي كل مجالات فن القول هم حماة هذه اللغة، ويكون الذين يترجمون ويعيدون كتابة تاريخ الفكر الإنساني من خلال ممكناتها في الدلالة والتركيب هم مصدر قوتها. فهؤلاء وأولئك هم من يمد اللغة بعناصر البقاء والتطور والابتكار، وهذه العناصر ليست سوى طريقة في بلورة تمثلات جديدة تشمل كل شيء في حياة الناس، فاللغة جزء من وجودنا في الحياة.

 

 

 

 

 

 

المحتويات

 

الفصل الأول : اللغة: الهوية الثقافية والوحدة الوطنية

الفصل الثاني : اللغة بين المعياري والدارج

الفصل الثالث : فصاحة المدرسة وعامية المحيط

الفصل الرابع: العامية والقاموس ؟

الفصل الخامس : العاميات وبناء الوصلة الإشهارية

الفصل السادس : الاستنساخ البصري والعري اللغوي

 

[1] – عبد الله العروي : الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1995، ص 220

الاخبار العاجلة