الهوية السردية: المحكي بين التخييل والتاريخ

76 مشاهدة
admin
مؤلفات
الهوية السردية: المحكي بين التخييل والتاريخ

الهويّة السّرديّة

المحكيّ بين التّخييل والتّاريخ

سعيد بنكراد

couv nara  - موقع سعيد بنكراد  2021

 

قد تكون قصة الخلْق التي تداولتها الأساطير والأديان هي أصل كلّ القصص، أو هي المحكيّ الأصليّ الذي تناسلت منه كلّ حكايات الكون، كبيرها وصغيرها. فنحن مُنْتجات سرديّة، بالسّرد نتعلّم كيف ننتمي إلى محيطنا الثّقافي وكيف نستعيد خبرات السابقين، وبه نُضلّل ونَنشر الدّجل والجهل والأباطيل، ومنه تُسْتَمد كلّ الشّرعيات في الدّين والانتماءات القبَليّة والعرقيّة والطائفيّة. وذاك أيضا ديْدن المؤسّسات الاجتماعيّة والأنظمة السياسيّة والأنساق المعرفيّة الكبرى. فهذه جميعها لا يمكن أن توجد إلا “إذا استَندت إلى معتَقد يتّخذ في الغالب من الحالات شكلاً سرديّا”[1]، إنّها الأساطير المؤسّسة لكلّ شيء. فلم تَرث الكثير من الشعوب من تاريخها، الطويل أو القصير، سوى سلسلةٍ لا تنتهي من الحكايات والمرويّات الإخباريّة ضَمَّنَتْها كلّ شيء عن حياتها ومماتها.

وموروثٌنا شاهد على ذلك، إنه يَخترق حياتَنا كلّها في شكل محكيّات تُشير إلى مواقف هي النّافذة “القيميّة” التي نُطل من خلالها على سلوكنا النّفْعيّ والثّقافيّ والعقديّ، في الحاضر وفي ما سيأتي بعده. فما ورثناه من الدّين ليس شرائع وأحكام قطعيّة إلا في ظاهر النّصوص المؤسسة، أما في الحواشي المصاحبة أو الشارحة، فهو مجموعة من الحكايات المقتَطعَة من زمنيّة قُدسيّة تستوعب كلّ تفاصيل حياة الذين سبقونا، وعلى أساسها يجب أن يتصور المؤمن زمنيّة الدنيا الأصليّة الخاليّة من كلّ القصص أيضا. فالمنطق الجبْري يقتَضي، في وجهه السّردي المفترض، تصور الحياة من خلال صيغتَين، واحدة في النصوص، أي في السماء، هي “المكتوب” ذاته، وهي قَدَر الإنسان الفاني، والثانيّة حقيقيّة، وهي الوجه العرَضي في الوجود الأرضيّ. وهذا معناه أنَّ المرء يُولد في قصص السابقين وداخلها يَنمو ويَكبر، ولن يكون سلوكه سوى نسخةٍ من نموذج هو مضمون القصة ومبرر وجودها.

يَتَعلق الأمر في كلّ هذه الصِّيغ الاستعارية، الصريحة أو الضِّمنية، بقصة الوجود الكبرى التي تناوبت الأساطير والخرافات والقصص اللاهوتيّة على تحديد تخومها في البدء الأول، حيث كانت الرغبة حَرّى في التّعرف على لحظة البداية في الكون، أو استعادة حالات الوعد والاختيار أو الخطيئة أو الاستخلاف، وهو الخوف أيضا من لحظة النّهايات حيث يَستعيد واهب الزمنيّة ما أطلق: “وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لَعِب وَلَهْوٌ وَلَلدَّار الْآخِرَة خَيْر لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ”[2]. لذلك لا قيمةَ للمشخَّص الحدَثي، في جميع تفاصيل الحياة، إلا إذا كان مجرّد يافطة لـمَخْفيّ يستوطن عالما آخر. وهو ما يعني أنَّ “الواقع ذاته ليس كذلك إلا إذا كان محاكاة لنموذج سماويّ، يَتعلق الأمر برمزيّة تستوعب كلّ شيء في الوجود، المدن والمعابد والمآثر، وهي كيّانات تشتغل جميعها باعتبارها مركزاً للكون”[3]. بعبارة أخرى، إنَّ الكون واحد في ذاته، في مصدره وفي أسباب نشْأته، ولكنّه في المحكيّات مُتعدّد تعدّد العقائد والأساطير.

وبذلك يكون هذا العالم الموصوف في السّرد جزءا من تصور شعبيّ للحياة يُسنِده فكر تناظريّ قائم على التّشابه بين كائنات وأشياء وظواهر من طبائع مختلفة. وتلك هي القوّة الضاربة للسّرد، وذاك مصدر طاقات التأثير داخله. فهو ليس حِجاجا يعتمد المنطق في بناء حقائقه، إنه يستند إلى الـمُحتمل الذي يبني عوالمه خارج سلطة الزمنيّة الواقعيّة، لذلك لا يُبَشر بحقيقة قابلة للتّصديق، بل يَبني عالما هو مرجع ذاته ومرجع حقائقه، “فلا صلة للسّرد بالواقع، إنه يكتفي بمنح معنى لأشيائه”[4]. ورغم ذلك، فإنَّ ما يستهوينا هو هذا المعنى بالذّات، لأنّه لا يُقيِّدنا بحقائق لا يُنكرها النّاس، بل يُغرينا بممكنات عيش تعشّش في الافتراض وحده.

وهذا ما يَمنح المحكيّ موقعا خاصّا في ذاكرة الإنسان ووجدانه. إنَّه لا يَروي حدثا، وإنما يُشخّص خبرة تتحقّق ضمن تفاصيل الفرجة الحياتيّة وفق إكراهات زمنيّة تُعاش في اليوميّ بَعيدا عن الصيّاغة التجريديّة لحدودها. وبذلك يَكون السّرد تأثيثا زمنيّا لعالم لا يُمكن أن يوجد إلا من خلال قصصه ورواياته. إنَّه، بعبارة أخرى، أداة لنقل ما راكمه النَّاس من معارف في كلّ المجالات وتَداولوه من خلال أشكال سرديّة يورثونها للخلَف. ومن هذا المفترض السّردي تَستمد قوانين المحاكم مضمونها. فكلّ فصْل من فُصولها ليس سوى قصّة يُحاول الادّعاء جاهدا تحيين حلقاتها من خلال تسْييجها بسيّاق، وهي القصة ذاتُها التي يُصر الدّفاع على التّشكيك في كلّ سيّاقاتها الممكنة.

وهذا معناه أن هويّة الذّات ليست حاصل وعي مباشر لحدودها، بل هي إفراز لما يُمكن أن تقوله المحكيّات التي نَلتقط من خلالها تفاصيل ما وقع لها أو توهّمت وقوعه. إنها بذلك هويّة سرديّة، فمن خلال السّرد تَتَشكلّ الرّوابط بين الذّات ونفسها وتُدرِك فحوى ما يُنسب إليها وما تعتقد أنّه من نصيبها دون غيرها، ما يُعد موقفاً يَعود إليها وحْدها، وهو ما يُميِّزها وينزاح بها عما جاءها من خارجها. إن السّرد هو الممر والواسطة وهو الحضن الذي يحميها من التّلَف. إننا منغمسون في القصص، قصصِنا وقصصِ الآخرين القريبين منا أو الذين يناصبوننا العداء. فضمن هذا “الانغماس” (Empêtrement) (ويلهام شاب)[5] تتحدد هويّتنا، أفرادا أو جماعات.

 

 

 

 

.

 

[1] – A Kibedi Varga : Discours, Récit , Image, éd Mardaga éditeur, Bruxelles, p.74

[2] – الأنعام الآية 32

[3] – Mircea Eliade : Le mythe de l’eternel retour, éd Folio, 1969,p.17

[4] – Jérôme Bruner : Pourquoi nous racontons-nous des histoires, éd Retz, 2000, p.11

[5] -يعتقد ولهالم شاب Wilhelm Schapp أن هويّة الفرد لا يمكن التقاطها إلا من القصص التي ينخرط فيها ، فهو منغمس في القصص منذ ولادته إلى يختفي من الحياة.

الاخبار العاجلة