السرد الديني والتجربة الوجودية

59 مشاهدة
admin
مؤلفات
السرد الديني والتجربة الوجودية

 

مقدِّمة

 

تُثير قراءة النُّصوص الدِّينيَّة عامَّة، والقصصيَّة منها على وجه الخصوص، قضايا تأويليَّة بالغة التَّنوُّع، بعضها مرتبط بطبيعة هذه النُّصوص ذاتها، فهي في عُرْف المؤمنين بها جزء من تصوُّر عقَديٍّ شامل لا يُمكن فعلُ أيِّ شيء دون العودة إليها في حالات الإباحة والتَّحريم. وهو أمر يُحيل بشكل ما على “أسطورة العَود الأبديِّ”[1]، حيث الفعل الموضوع للإنجاز فيها يُحاكي فعلاً سابقاً. فما يقوم به المؤمن وما يُحسُّ به وما يَبْتغيه؛ مُودَع بشكل سابق في ذاكرة كلِّيَّة تتضمَّن مجموعة من النُّصوص الوعظيَّة الَّتي تستوعب كلَّ ممكنات الفعل الصَّادرة عنه. ذلك أنَّ المحكيَّات الدِّينيَّة وشبيهاتها في المثَل والحكمة هي “نماذج سلوكيَّة” جاهزة يُنظر إليها باعتبارها “حياة سابقة” يجب مُحاكاتها والاهتداء بتعاليمها، إنَّها تشتمل على أصل يُصَدِّق على كلِّ الأفعال الخاصَّة.

وبعضها وثيق الصِّلة بما يُمكن أنْ يَترتَّب عن إكراهات الانتماء المذهبيِّ وجُنوح النَّاس داخله إلى نسج الكثير من المحكيَّات وتأويلها وفق ما يخدم غايات موجَّهة لخدمة المذهب أو الطَّائفة أو المعتقد الدِّينيِّ عامَّة. فالنُّصوص احتمالات دلاليَّة فحسب، وذاك ما يُشكِّل لا زمنيَّتها في تصوُّر المؤمنين بها، وهي أيضاً مصدر طاقاتها الدَّلاليَّة في عرف من يبحث فيها عن معانٍ لا ترتبط بالمشخَّص فيها؛ إنَّها في الحالتين معاً لا تحمل معناها أو معانيها في ذاتها، بل تستمدُّ جزءاً منها من المعتقد أو من قُرَّائها. إنَّها في هذا وذاك تَسْريد[2] للخبرة الدِّينيَّة باعتبارها تدبيراً لـ”قلق” هو ما يميِّز حضور الإنسان في العالم، انفتاحه المزدوج على ما يوجد خارجه واستيعابه في المعنى لما يتسرَّب إلى وعيه. فالسَّرد يُمكِّننا من “تشخيص” الكثير من المواقف الَّتي نتحاشى التَّعبير عنها بشكل مباشر.

وبعضها الآخر مستمدٌّ من إمكانات “استعمالها” في مجالات السّياسة والإيديولوجيا والاجتماع. فقد تكون الغاية من قراءة النُّصوص هي استخراج قاعدة سلوكيَّة أو استنباط حكم مقاصديٍّ أو بلورة قاعدة قانونيَّة يعتمدها النَّاس في تدبير شؤونهم في الفضاء العموميِّ. يتعلَّق الأمر بتبرير لسلوك في حاجة إلى غطاء ثقافيٍّ يُضفي عليه شرعيَّة يقبلها الدِّين أو يُجيزها أو يُشير إلى “الاستحبابِ” أو “الاستكراهِ” فيها. إنَّها محاولةٌ لاستعادة كلِّ الحالات الَّتي تستعصي على الضَّبط ضمن ما حُرِّم أو أُحِلَّ داخله.

أو قد تكون محاولةً للتَّعبير عن ميلٍ راسخٍ في نفس المؤوِّل، ذاك الَّذي يبحث في النُّصوص عمَّا يُؤكِّد قناعاته ويحوِّلها إلى نموذج واجب التَّعميم. وهناك في التَّاريخ ما يُثبت ذلك. فقد اقتتل أصحاب الفِرق فيما بينهم وما زالوا استناداً إلى النَّصِّ الواحدِ. فالمرجئون والقدريُّون وأصحاب الاختيار والتَّسيير يستمدُّون أحكامهم من النَّصِّ نفسه، ولكنّهم يوجهونه لكي يَصْدق على معنى دال على الإرجاء أو القدرية أو الاختيار. وتلك أيضاً حالةُ المذاهب، فما يفصلُ الشِّيعةَ عن السُّنَّة مثلاً ليس تنوُّعاً في النُّصوصِ، فالقرآنُ هو المصدرُ عند الفريقين، بل اختلافُ في تأويلها. وتعدَّدت الاشتراكيَّات في عصرنا أيضاً وتنوَّعت إيديولوجيَّاتها واقتتلَ المناضلون فيما بينهم بسبب اختلافهم في تأويلِ أدبيَّات ماركس أو لينين.

لذلك عُدَّت هذه النُّصوص، في جميع هذه الحالات، خارج تحديدات المقاصدِ والمبدأ العقديَّ، وخارج ما سُرِّب إليها من أحكام مسبقة، خزَّاناً من دلالات لا يُمكن حصر عددِها إلَّا بالعودة إلى سياقات جديدة تبنيها الطَّاقات الاستعاريَّة داخلها. فبعيداً عن الحكم الفقهيِّ، أو فيما هو أعمق من الغايات الوعظيَّة للحكاية؛ تتسلَّل “رغباتٌ” و”حيرةٌ” و”خوفٌ” وأشكالٌ كثيرةٌ من “قلقٍ” وجوديٍّ رافق الحياةَ الإنسانيَّة على الأرضِ. لذلك وجب تَدَبُّرها في انفصالٍ عن معناها الحرفيِّ، وفي انفصالٍ عن الغايات المقاميَّة الَّتي تشترطها الأحكامُ المقاصديَّة، أو تُشير إليها الوقائعُ المرويَّة في الوقت ذاته.

وتلك هي طبيعةُ السَّرد وذاك بعضٌ من وظائفه. إنَّه ليس تاريخاً، ولا يُحاكي سلوكاً واقعيَّاً، كما قد تُوهِم بذلك تجلّياتُه المباشرة، بل يُسقط “عالماً ممكناً” تستوعبه المحكيَّات، وهو ما يمكن أنْ يكون معادلاً مُشَخَّصا لما استعصى على التَّجريد المفهوميِّ. فقد لا تخلو النُّصوص الدِّينيَّة من التَّاريخ، ولكنَّها تفعل ذلك بطريقتها الخاصَّة، إنَّها تُعيد صياغة وقائعه في شكل استعارات تختفي في الغالب في تفاصيل السَّرد. فلا وجود لتطابق كلِّيٍّ بين حقيقة الواقعة في ذاتها باعتبارها فعلاً مادِّيَّاً، وبين تأويلها في اللُّغة. هناك دائماً تفاوت في كثافة التَّعبير وفي طريقة تمثيل الانفعالات المضافة. فبما أنَّ الشَّكل الوحيد الممكن لوجود الأشياء هو وجودها في اللُّغة؛ فإنَّ القول فيها أو عنها لا يكتفي بوصفها، بل يتضمَّن قصد الواصف أيضاً، فما هو موصوف في العالم الخارجيِّ لا يُمكن أنْ يكون استنساخاً لما يَتمُّ تمثيله في الكلمات، بل هو نسخة معدَّلة منه؛ أي: تأويل له.

وذاك أيضاً هو مصدر كلِّ تعبير استعاريٍّ، فالقول المجازيُّ في عموميَّته “مرتبط بتجربتنا الدَّاخليَّة للعالم، ومرتبط أيضاً بسيرورات انفعالاتنا”[3]، فما لا تستطيع اللُّغة تسميَته أو وصفه بشكل مباشر، وما لا يستقيم ضمن إكراهات “الأنا”، ببعديها الذَّاتيِّ والأعلى، تلتقطه أشكال وصيَغ استعاريَّة يكون مُضْمرُها المجرَّد عادة هو بؤرة المعاني وغايتها النِّهائيَّة. وهذا معناه أنَّ الصِّيغ المجازيَّة تُمكِّننا من”خرق” القوانين الَّتي تتحكَّم في التَّداول اليوميِّ للأشياء والكائنات والكلمات، وتَتحكَّم في العلاقات القائمة بينها، وذاك سبيلها إلى بناء معانٍ كثيرة لم تستطع التَّجربة المشتركة استيعاب حدودها القصوى. وهذا أمر يَصدق على كلِّ النُّصوص؛ قديمِها وحديثِها، ذلك أنَّ “عالم النَّصِّ يُبنى دائماً على أنقاض عوالم الواقع”[4].

 

المحتويات

مقدِّمة

الفصل الأوَّل: النَّار والأصنام والطَّقس الاستئناسيُّ” قصَّة إبراهيم”.

– الفصل الثَّاني: سليمان والعرش: وكشفت عن ساقيها.

– الفصل الثَّالث: يوسف في غيابات الجُبِّ والإغراء

-الفصل الرَّابع: حبال السَّحَرة وعصا موسى.

-الفصل الخامس: قصَّة الخلق: الزَّمنيَّة الجنس المقدَّس.

-الفصل السَّادس: قصَّة النَّار: بين القدسيِّ والاستيهام الجنسيِّ.

 

[1] – Eliade, Mircea: Le   mythe de l’éternel retour, Gallimard,1949

[2] -narrativisation

[3] – أومبيرتو إيكو: التَّأويل، بين السِّميائيَّات والتَّفكيكيَّة، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثَّقافيُّ العربيُّ، الطَّبعة الثَّالثة، بيروت 2016، ص157.

[4] – Paul Ricœur : Du texte à l’action, éd Seuil, 1986 P. 158

الاخبار العاجلة