بين اللفظ والصورة

39 مشاهدة
admin
مؤلفات
بين اللفظ والصورة

مقدمة

هذا كتاب في السميائيات، إنه يتناول قضايا المعنى من حيث هو أثر الإنساية في الوجود، ومن حيث هو خاصية للإنسان دون غيره من الكائنات. فالإنسان المتكلم والناظر وحده يمكن أن يصنع لنفسه عوالم يستمدها من وجدانه، لا مما تقترحه الطبيعة أو تميله عليه قسرا. فنحن جزء من الطبيعة في الظاهر فقط، أما في حقيقتنا فنحن منتجات التمثيل الرمزي بكل واجهاته: في اللغة والصور والرسوم، وفي كل الوقائع الاجتماعية التي نُعدها لكي تكون دالة على احتفائنا بما أضافته الثقافة إلى ذاكرتنا، لا بما يمكن أن تتضمنه توجيهات الجينات فينا.

فلا قيمة لما ” يُقال” خارج اللغة إذاً، ولا جدوى من النفعي في حياتنا إلا من حيث هو واجهة نُصَرِّف من خلالها الرمزي والغامض والملتبس في حياتنا، فهو المنتهى في وجودنا وهو منبعه. فكل ما نتداوله وكل ما نجربه وننتشي به هو في الأصل شحنات رمزية لا مأوى لها إلا في ما يصدر في غفلة منا، أو نحاول أن نخفيه في سلوكنا الواعي أو غير الواعي. فما نعتقده وما نؤمن به ليس مصدره حقائق التاريخ الفعلي دائما، فقد يكون في الأصل رغبات لم تتحقق، أو أسئلة لا أحد استطاع الإجابة عنها بالبرهان العقلي. لذلك، لا تتحقق وقائع حياتنا في عراءٍ أو داخل فضاء بلا ذاكرة، بل هي شحنات دلالية من طبيعة غامضة لا تقودنا إلى الكشف عن جوهر الأشياء، بل تغطي على بعضها بعضا في الغالب من الحالات.

واستنادا إلى هذه الحقائق قدمنا في هذا الكتاب مجموعة من التصورات تتمحور جميعها حول قضايا الوقائع النصية ببعديها اللفظي والبصري. قمنا بذلك من خلال صياغة نص نقدي شامل من حيث غاياته ومن حيث طريقته في الإحاطة بمجمل الأشكال التي يتخذها المعنى في الوقائع التي قمنا بتفكيكها. وهو ما يعني أن المعنى في هذه الوقائع ليس معطى من خلال الظاهر فيها، بل هو حصيلة ما يمكن أن ينتج عن افتراضات تأويلية هي سبيل أو سبل إلى معاني لا نعرف عنها سوى النزر اليسير. فالأساسي في المعنى ليس جوهره بل السبيل إليه.

لذلك لم نقم في هذه الدراسات بوصف خارجي يقود إلى استنباط أحكام عامة، أو الخروج بخلاصات مسبقة قد لا تحتملها الوقائع المدروسة ذاتها، بل حاولنا رسم بعض الافتراضات الكفيلة بالكشف عن الطريقة التي تشتغل بها، ومن خلالها أيضا تحاول توجيهنا إلى غير ما تود قوله في الظاهر من أشكالها ومضامينها. إن المعنى الحرْفي مضلِّل في غالب الأحيان، أو هو شاشة لا مبرر لوجودها سوى أنها تعبير عن طبقات دلالية أخرى تصر على إخفائها. فما لا يُقال في الظاهر من النص، أو ما يتم إخفاؤه هو ما يحدد في أغلب الأحيان مضمونه الحقيقي.

كان ذلك ديْدننا ونحن نسائل وقائع أداتها اللسان وحده. ما يتعلق بالدور الذي تقوم به الموسوعة بكل مكوناتها في توجيه مجمل تحققات الوقائع الإبلاغية ضمن سياقات هي التي تخصص المعنى وتمنحه شكلا في الوجود، وما يتعلق بمضافات القارئ واستيهاماته في منح هذه الوقائع “وجودا” خاصا في الوجدان لن يكون سوى التجسيد الأمثل لمعنى ينمو في الذاكرة الثقافية، لا في الوقائع المفردة، كما توهمنا بذلك حالات التجلي. فالخطاب في جميع الحالات ليس تسلسلا لجمل يقود بعضها إلى بعض، بل هو في المقام الأول ذاكرة.

إن هذه الذاكرة ليست بناءا “فوقيا” مشدودا إلى “تحت” مادي خالص، كما تَوَهَّمْنا ذلك لعقود طويلة، بل هي مزيج منه ومما تفرزه الذاكرة المخيالية باعتبارها وجها آخر للسلوك، أو هي جزء من هوية شاملة تضم هذه وذاك، وداخلها تتطور الهويات الفردية المخصوصة. فما تأتي به الحكايات وفعل السرد والتمثيل لحيوانات من خلال النبش على جدران الكهوف وفي التخييل هو جزء من وقائع التاريخ، أو هو ما يفْضُل منه ويستوطن وقائع لا تكشف عن مضمونها بشكل واعي.

وبالروح ذاتها تعاملنا مع النصوص البصرية في كل أشكال تجلياتها. فعلنا ذلك في الإشهار أولا، فالصورة في هذه النصوص ليست منتهى الرؤية وغايتها، بل هي وسيط، أو حامل لمنتج هو الأصل في التمثيل. فما تقوله الصورة لا يشكل حقيقة في العين، بل هو “رحى” صامتة تنتج استيهامات يجب أن تغطي على تفاصيل الواقع، وهي التي ستعلن عن ميلاد حقيقة جديدة ستكون سبيلنا الأوحد إلى “المتعة” و”السعادة”. ذلك أن المواطن السعيد هو الذي يحقق مواطنته في الاستهلاك وحده خارج حيثيات السياسة والإيديولوجيا. فالتوق الدائم إلى الوصول إلى”مطلق وهمي” في الامتلاك هو وحده مصدر السعادة”، كما أكدنا ذلك في فصل من فصول هذا الكتاب.

وهو ما يصدق أيضا على الصورة التي أنتجها “العصر البصري” ( العصر الراهن) بتعبير دوبري. فالغاية من هذه الصور هي الزج بالناس في “صخب” بصري بلا هوية ولا مؤلف ولا غاية سوى غايات التسويق ذاته. إن الصورة في هذا العصر منذورة، في أغلب حالات التواصل، إلى “الترفيه” الذي لا يحمل داخله سوى شيء واحد هو التضليل. لذلك لا يراكم هذا العصر صورا، بل يقوم اللاحق داخله بإلغاء السابق. فما يلقى من الوصر إلى الشارع لا غاية منه سوىأن يوكن شاشة مضافة تمنعنا من رؤية الواقع كما هو لكي نستبدله بما يأتي من الإشهار.

بعبارة أخرى، إن الصورة في هذا العصر لا تملك رهبة الوثن ولا جدية اللوحة، كما يقول دوبري، إنها تبحث عن الأشياء التي ألفتها العين واعتادت عليها لتسكن فيها وتُطَبِّعها. وبذلك تقوم دائما بوضع قدر من السخرية والعبث والعرضية في الأشياء التي تمثلها، إنها عابرة للوجدان، كما هي عابرة كل الانفعالات وحالات الاستهلاك اليومي. فما هو أساسي في الوجود ليس اللحظة في الزمن، بل وجهها في التمثيل البصري. فالصورة في السيلفي مثلا تكتفي باستثارة الحضور التلقائي للجسد المصوَّر خارج أي تأطير، أي خارج أي وَسْم دلالي عدا “فرجة” اللعب ذاته.

ثم قمنا بذلك ثانيا في الفن. والفن كما هو شائع في الجماليات يُمثل حالات تتسلل إلى الوجدان وفق مقتضيات تبحث في الذات عن إبداعية تُحول المحسوس في الأشياء إلى طاقة انفعالية تُعيد لها توازنها، أو تلك التي تُلقي بجسر جديد بين المرئي في الوجود وبين ما يعتبره الإنسان عالما “حقيقيا” يستعصي على التمثيل المباشر، وهو ما تقوم الصورة باستعادته باعتباره ممرا رابطا بين المرئي في الوجود وغير المرئي في السماء. وهي حالة تشكل “نظرة ” سابقة على الفن، وسابقة على الصور “العصرية” من حيث الغاية ومن حيث شكل التمثيل.

نحن في هذه الحالة أمام “نظرة لا موضوع لها ” حسب تعبير دوبري دائما. فما يستعصي على الإدراك الواعي، أو ما يحاول الإيهام بذلك يتحول ببطء إلى صور غامضة تسكن الداخل ولا تقوم العين سوى بإعادة صياغتها وفق استيهامات لا معادل موضوعي لها إلا في المفاهيم.

وهناك بالإضافة إلى هذه المحاور المركزية قضايا أخرى منها الزمن والمحتمل السلوكي والشرعية والذكريات والاعتدال والشعار. يتعلق الأمر بكل ما حاول الوجدان الإنساني إيداعه في منتجاته، ربما فعل ذلك رغبة منه في استعادة اللحظات الأولى التي أخرجته من جنة كان يُؤْتى فيها بكل شيء دون حساب، ليقبل بتجربة متعة الفناء في الرمزي. أو فعله لكي يقاوم القسر أو ينسى أو يتناسى آلامه، أو فعله فقط ليثبت لنفسه أنه موجود.

لا نتمنى أن تنال هذه القراءات رضا القارئ، بل نأمل أن تشوش على قناعاته وتدفعه إلى التساؤل، فنحن في هذا الكتاب لا نقدم أجوبة، بل نصوغ أسئلة، والأسئلة وحدها خالدة كما يقال.

الاخبار العاجلة