“الكلمات والنساء” لمارينا ياغيلو

141 مشاهدة
admin
مقالات
“الكلمات والنساء” لمارينا ياغيلو

حينما تتنزل الثقافة منزلة الطبيعة.

محسين الدموس.

الأعرابي وكراهية المرأة:

صدر السيميائي سعيد بنكراد في الصفحة الأولى من الكتاب المترجم” الكلمات والأشياء”(1) بهذا القول المأثور المذهل مر أعرابي

بامرأة تقرأ فقال الأفعى تزداد سما . قول لا طنطنة فيه ولا حشو لكنه كثير الإفادة، يختزل في جملة واحدة صفحات كتاب مارينا العديدة. لا تبدو هذه العتبة النصية بريئة أو ذاهلة  عن المغزى خصوصا ونحن نعلم أن المترجم حجة في مجاله يدرك تمام  الإدراك البعد التداولي ل:”الموازيات النصية”. ينتسب الأعراب / الأعاريب إلى البادية .فهم أهل ” الوبر ” الذين يقتصرون كما يقول  ابن خلدون على المعاش الطبيعي وعلى الضروري من  لأقوات والملابس والمساكن وسائر العوائد. طبيعة معاشهم تحدد  وعيهم ، أو بتعبير كارل ماركس :وجودهم المادي يحدد وعيهم الاجتماعي. كيف يؤسس إذن الأعرابي رؤيته للعالم عموما و للمرأة خصوصا؟ وهل يمكن أن نلوم الأعرابي على “رؤيته الفالوقراطية ”   هاته؟ ثم هل هناك من معنى للوم في هذا السياق ؟  يحيل قول الأعرابي على ثلاثة مكونات لفظية: المرأة/السم/القراءة. بين

هاته الألفاظ وشيجة يسهل على المؤول بيان معناها: المرأة تزداد خطورة بالقراءة. ويمكن تجريدها من بأسها بصدها و بحرمانها من وسائل هذا   البأس، ألا وهو: المعرفة.  الأعرابي رأى ما رآه، وعبر عن جهة نظر تمثل إدراكه وشروطه  المعرفية ،كما تعكس قيمه وتمثلاته الثقافة السائدة في زمانه. ومن ثمة ، لا عتب عليه مادام شظف العيش وخشونة الواقع حتما عليه الاندراج فيما دعاه ماركس ” الوعي الأيديولوجي المقلوب”. قريب الأعرابي في جماعة الفحول النابغة الذبياني لم يعتبر المرأة أفعى تزداد زعافا بالقراءة ، بل عدها – وهذا أفظع – دجاجة تقيق نعم ،لكن هل ترقى إلى صياح    الديك؟ الجواب بطبيعة الحال : لا . ولأنه ” فحل ” و”نابغة ” في”فحول ” الجاهلية، فقد أطيع  أمره بإسكات الدجاجة ” المسكينة “، لأنها خرقت التسنين المسبق وصاحت صياح الديك. نعلم أن الأمر برمته سردية استعارية ترى في نظم الشعر ” محمية ” يحتكرها الفحول لا فصيلة الدجاج. لكن إيرادها   هنا كان الغرض منها التأكيد على تواطؤ ” الذكورية ” في تشويه المرأة سواء صدرت عن أعرابي خشن مهموم بضرورات المعاش أو نبعت    من شاعر نابغة كانت تضرب له خيمة للحكم على الشعراء. و المعاش  بتعبير ابن خلدون هو نقطة الارتكاز التي يعول عليها في تحديد فاعلية الإنسان أو خنوعه، ذكائه أو بلادته، هيمنته أو تبعيته، الغالب أو المغلوب، التسامي و الفخر أم الاستبطان لشروط الدونية. و لفهم  آثار هذه الأخيرة نحيل على قولة ابن خلدون الخالدة :  “المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب في شعاره و زيه و نحلته وسائر أحواله وعوائده”(2). تأسيسا على جهة النظر هاته ، لم يسع بنكراد في تقديمه البديع إلى لوم الأعرابي على  كراهيته للمرأة، أو إلى تسويغ رؤيا النابغة الذبياني إلى الوجود، وإنمارام إلى تبرئة الطبيعة من ظلم المرأة واعتبار الثقافة، ومن ضمنها اللغة العامل الجوهري في التمييز السلبي بين الرجال و النساء. بعبارة أوضح ثمة بون شاسع بين الطبيعة و التطبيع. فالأولى تحيل على الحياد والثاني يحيل على التحيز. فإذا كانت ” الذكورة والأنوثة خاصيتان بيولوجيتان …هما أصل التلاقح والتناسل والتكاثر – وهما – جزء من وظيفة في الجسد سابقة على التمدن والتحضر يحددان موقعا داخل نظام رمزي  يذكر ويؤنث استنادا إلى سند لغوي يتميز بتقطيع خاص للمدرك الخارجي لا يراعي في الكثير من الحالات حقيقة الجنس في ما يتم تقطيعه”(3)   فإن المعول عليه حسب الناقد / المترجم يكمن في   تفسير أسباب ”  استلاب ” المرأة الناتج عن ” السلبية ” التي فرضت عليها أي في تعيين ما للطبيعة وما للتطبيع من آثار على رؤية الإنسان لذاته ولما يحيط به. يسمح هذا التعيين إذن بالوعي بأنماط الإيديولوجيا المشوهة التي تستتر وراء الفكر ما ورائي لتكريس أوضاع اجتماعية والنظر إليها كحتميات لا تقبل الشك أو التفنيد. التطبيع بهذا الاعتبار، يلغي التاريخ ، ويذهل عن إدراك -ما يدعوه  سعيد بنكراد- الفاصل المركزي بين الحس في الطبيعة وبين التمثيل الرمزي في الثقافة”(4). يتيح هذا الإدراك من جهة أخرى، إمكانية تمثل قضية العلاقة  بين اللغة و الفكر تمثلا عقلانيا، أي يمنح  قدرة على تجسير الصلة بين القيم الرمزية و البنيات الذهنية القابعة في اللاشعور .بهذا المعنى، تقوض دعائم الرؤية ” الجوهرانية ” للتاريخ وتصبح جميع ثوابتلإنسانية محط تساؤل باستمرار. إن ثنائية العقل/النفس الحساسة، و ثنائية ” اليين / اليانغ ” ، أي مبدأ الأنوثة السلبي / و مبدأ الذكورة الحيوي رؤيا تنهل من الخيال و تسعى إلى التجسد في قوالب النحو و تصنيفاته من جهة، و في ظلال المجاز و متاهاته، من جهة ثانية. و هذه الثنائيات ترتد في مجملها إلى اللغة التي ” تعطينا صورة عن المجتمع وعن علاقات القوة التي تحكمه.” (5) . وعليه، فإن المعنى لا يأتي عفوا -كما تنبه إلى ذلك ابن خلدون- بل بناء وصنعة ودربة وأفقا للتأويل. ولما كانت اللغة مادة المعنى متعددة الوظائف لا تقتصر غايتها في التعيين والإشارة والتواصل فحسب،  بل تضمر أيضا أحكاما قيمية لا تخطئها العين ، كان من الأحرى رد

الأسباب إلى المسببات و إعادة النظر في الترتيب الذي بنته اللغة في  الوجود و في الإنسان. على هذا الأساس ، يمكن القول إن الترتيب  المسبق للوجود الإنساني وفق ثنائية المذكر والمؤنث، يستتبع هندسة اجتماعية وجنسانية تعلي من الأول و تحقر من الثاني. في هذا السياق، تحيل ياغيلو على ” داموريت و بيشون ” الذين لاحظا  وجود هيمنة لافتة للمؤنث في أسماء الآلات. فالأمر لا يحتاج إلى برهنة : ” فبما أن أسماء الآلات أدوات مساعدة للرجل، فإنها لن تكون سوى مؤنثة “6. علاوة  على ذلك، تحمل المرأة بمقتضى هذه الهندسة وظيفتين: وظيفة المرأة النزيهة و وظيفة المرأة العاهرة، وهي بهذه الوظيفة المزدوجة تنافس    الشيطان في مرادفاته التي لا تعد ولا تحصى. لا يقف التحقير عند هذا الحد، بل يتخطاه إلى اعتماد القواميس تعريفا مضحكا للمرأة يلزمها بالإنجاب، أي أن ” السحاقية ” و”العاقر ” و”مشوهة الخلقة “هن خارج التعريف. أما الرجل، فيكفيه ” القضيب ” حتى ” ولو كان عاقرا أو عنينا “(7) .

لعل ما يعمق حجم هذه ” التراجيكوميديا ” ، أو ما يزيد الطين بلة كما يقال إن هذه التراتبية يعاد إنتاجها وتوريثها أبا عن جد وفق قوالب نحوية و استعارات مجازية ،تجعل الفاعلية للذكر والمفعولية للأنثى. هل هي قسمة ضيزى ؟ نعم هي حتما كذلك ، لأنها تفضي إلى الظلم و الحيف و القهر. كيف للعقل السليم أن يستسيغ مثلا تذكير الضمير في جملة تضم طفلا في جمع يضم ملايين النساء؟                        هو مثل سقناه على سبيل التمثيل لا الحصر (8) لإبراز أن ما يسميه بنكراد “الجنسنة ” تمثيل رمزي لا صلة له بحقائق الأشياء في الطبيعة. إن التحرر من قوالب اللغة الجاهزة والتوزيع غير العادل لدوائر المذكر والمؤنث خطوة في رحلة الألف ميل، لكن خوض معركة المساواة    تتطلب أيضا -كما ينبه سعيد بنكراد- ” تغيير تصوراتنا عن الحياة و الموت والمرأة والرجل.” (9) ، أي الكف عن النظر إلى المرأة إما كقديسة أو كعاهرة، والامتناع عن ترديد أمثلة و بعض المسكوكات من قبيل “الرجل ينتصب و المرأة يصيبها البلل”، واعتبار حفيدات حواء بكل بساطة شريكات أساسيات في الحياة. بين تقديم بنكراد ومثن مارينا تقاطعات شتى وتجاذبات كثيرة ، نحدس أنها كانت الدافع لنقل مؤلف مارينا إلى لغة الضاد. فالمترجم الحصيف بقدر ما يختار موضوعه بعناية وفق النسق الفكري الذي يشتغل في إطاره، بقدر ما يتطلب الموضوع بإلحاح مترجمه.

كل اللغات فاشية :

في عبارة ذائعة الصيت ل – رولان بارت – توصف اللغة ب ” الفاشية ” .إزاء هذه الصفة، لا يشعر الإنسان بالمنع من القول، بل وهذا أمر و أدهى بالإجبار عليه. و السؤال الذي يلح في هذا السياق: هل من خلاص حيال هذا الجبروت ؟في أفق الجواب عن هذا السؤال، تندرج مقاربة مارينا ياغيلو .فلا معنى لأي إصلاح سياسي أو ثقافي يذهل عن تحيزات اللغة، ولا يأخذ بعين الفطنة ترسبات المركزية الذكورية الثاوية وراء قواعد النحو و مدارج المجاز. هنا بيت القصيد. إن اللغة ، تأسيسا على هذا المعنى ، اختراع إنساني محض ينطوي على ميولات و رغبات و هواجس، لا ينطق إلا بهوى مخترعه. و من ثمة ، فإن خلاص النساء ” يمر عبر رفض طابو هات اللغة”(10) ، كما أن  الإقرار بالمساواة بين المرأة والرجل يشترط في المقام الثاني دحض  و تقويض  التراتب الهرمي بين ” الهو “، و” الهي “، وتحييد اللغة بجعلها وسيلة تربوية تعلم النشأ أن وظيفة الإنسان داخل المجتمع تعتمد على كفاءته و استحقاقه  وليس على انتماءه البيولوجي .بين ثنايا الصفحات نشعر بأصداء المقاربة ” الجندرية “. فلا شيء يمنع من  إدراج كتاب ” الكلمات والأشياء ” ضمن أطروحة النوع، التي رسمت الحدود بين ” الجنس ” و”النوع “، بين البيولوجيا التي تصنع الذكور  والإناث، وبين الثقافة التي تميز بين الرجال والإناث. في التصنيف  الأول ثمة الطبيعة أو القدر، وفي التصنيف الثاني ثمة الهيمنة والسلطة. لا تتردد مارينا إذن في اعتبار اللغة مرآة ثقافية تعكس خللا اجتماعيا يتجلى بجلاء في الأحكام المسبقة والقوالب الجاهزة و الأفكار النمطية. إن اللغة بناء على هذا الفهم، ” نظام رمزي لا يمكن فصله عن العلاقات الاجتماعية – ولذا – يجب التخلي عن الفكرة القائلة بأن اللغة محايدة. بعبارة أخرى، لا تبدو غاية اللغة حسب ياغيلو وسيلة بحصر المعنى تتغيى فقط تيسير التواصل ، بل أيضا ” أداة للرقابة والكذب و العنف والاحتقار والقمع(11)، أي أنها حمالة وجهين على الأقل، تحمل ” السوط ” حينا، و مفتاح الانفتاح و التحرر، حينا آخر. إنها الداء والدواء، السم والترياق في الآن معا. من هنا ،يمكن الحديث عن الفعل الإرادوي للغة .ففي ازدواجيته ،يكمن تأثيرالإيديولوجيا بصيغتيها اليسارية المتمردة أو اليمينية المحافظة، حيث يمكن للغة أن تكون أداة للهيمنة، و يمكنها  أيضاأن تكون وسيلة للانعتاق. و على هذا الأساس، ينبغي تنسيب إرادة ” النضال ” في تخليص النساء من ” الجنسانية “، إذ يتحتم على المتمرد كما ترى ياغيلو مراعاة العوامل الموضوعية في أي تغيير ف ” الفعل الإرادوي للغة لا يستطيع القيام بأي شيء خارج تطور مواز للعقليات الذهنية والاجتماعية” (12) .

المعاجم صنعة إيديولوجية :                    

عنونت ياغيلو  الفصل الخامس بهذا السؤال المثير: هل ينبغي حرق القواميس ؟ (13) لا شك في أن القواميس مرآة للمجتمع والإيديولوجيا، و إحراقها أو تطهيرها لا يغير من حقيقة الأشياء  ، حقيقة الحيف والميز الجنسي الذين يلحقان بالمرأة أينما حلت وارتحلت. أما دعوة فكتور هوغو بربط كل ثورة بإصلاح القاموس فتبدو مجرد  طوبى. إن الأشياء هي المادة الخام، بينما الكلمات هي                    التمثيل الرمزي لها . والسؤال الذي ينبغي طرحه في هذا السياق: أي رابط يصل بين الكلمة و المرجع الذي تحيل عليه؟  إنها ” الاعتباطية ” بتعبير دو سوسير، أو ما يسميه مارتني ب “التمفصل المزدوج ” الذي يتيح للغة الانقسام إلى مستويين هما:  الأول يمثل مستوى الوحدات غير الدالة  ” الفونيمات “، والثاني يمثل مستوى الوحدات الدالة ” المونيمات “. فلا شيء يرغم المتواليات الصوتية مثلا ( ت-ف-ا-ح-ة ) على  الإحالة على المحتوى الدلالي القابع في ذهن المنتسب للغة العربية، مادام هذا الأخير يمكن أن يتجسد بمتواليات صوتية مغايرة في لغة  أخرى. يتعلق الأمر إذن بفعل إنساني بحث وإجراء ثقافي و مواضعة اجتماعية وترسيم رمزي إيديولوجي يجسد ” أداة للنمذجة داخل أنساق التواصل و التمثلات الرمزية للإنسان”(14). الغاية منه تحديد وتوزيع  الأدوار في المجتمع وفق منطق الغلبة وليس طبق منطق العدالة.  و الأسئلة التي تلح علينا في هذا السياق:  هل من سبيل لتصحيح الوضع ؟ هل القول بتاريخية النمذجة اللغوية الإنسانية يسمح بقلب الهيمنة الذكورية رأسا على عقب ؟ ألا يؤدي ذلك إلى – كما نبه إلى ذلك مترجم الكتاب – ” تهاوي الكثير مما جاءنا من الدين ومن التربية المباشرة ومما تعلمناه من الحكايات والأساطير؟ “(15)

 جواري بلا قيود :                                       

أظهرت المرأة قدرة لافتة على التأقلم والتحدي. تأقلمت مع العار، حينما اعتبرت رمزا للشر وبطلة ” الخطيئة الأصلية “. كما تعايشت مع الإهانة، عندما ربطت عفتها بحزام حديدي يحل ويقفل حسب رغبة و إرادة    مالكه، واضطرت أيضا إلى تقبل وضع “العورة “، أو الجسد المسبب  ل “فتنة ” الرجال. قيل لها جسدك ليس ملكا لك، بل هو ملك ل ” الجماعة “، وهذه الأخيرة أدرى بشؤون دنياه.  ثارت المرأة في وجه هذا التخبط الذكوري الصارخ وبينت زيفه و تهافته .كسرت المرأة الكثير من الأغلال، ونالت على إثرها الحظوة والعلى ، واكتسبت حق التعليم و حق التصويت ، بله حق الرئاسة . ومع ذلك، بقيت المرأة ” جارية ” مقمحة ترسف في أرسان اللغة . فأية مزية  للمرأة في أن تعتلي أعلى المناصب و استعارات اللغة تعدها ” محطة ” لقطار، و” قفل” لمفتاح، و ” أرضا ” لمحراث، و” وعاء ” لمحتوى . ولذا ، سوف تضل المرأة جارية ما لم تقوض البنية اللغوية المزدوجة ( كلام الرجال /كلام النساء )، التي تعكس – كما تلاحظ  ياغيلو – تراتبية اجتماعية تخصص للكلام الأول نبرة الفحولة و القوة ،وللثاني  نبر الهمس و الهنة . كما سوف تلبث في فقص الحريم لا تبرحه إن استعذبت الانتساب إلى ” الجماد ” أو إلى صنف ” غير العاقل” . يتعلق الأمر إذن بتبئير النظر على النظام و الترتيب الذي في الأشياء . فلا شيء يخضع للصدفة أو للقدر أو للطبع أو للفطرة، بل إن ما يسوغ طابع ” النسبية ” على هذا النظام هو أن الرجل نفسه دون سواه من  أرسى قواعده و بنيانه و لا يجوز في هذا السياق أن يكون خصما و حكما في نفس الآن. فالمرأة كما بينت سيمون دوبوفوار  في كتابها الملهم  لحركات التحرر النسائي الصادر عام 1949 ” الجنس الثاني لم تولد امرأة، بل صيرتها الإيديولوجية الذكورية بالتربية والتعليم و الإعلام امرأة . و لعل هذا ما يشفع لنا بالاعتقاد في أن ثنائية ( كلام الرجال / كلام النساء ) لا سند منطقي لها، أن الميل نحو السلطة والهيمنة هو المتحكم فيها.

فأن تكون المرأة أكثر تأدبا ومحافظة من الرجل وأقل اعتدادا بالنفس وأقل عدوانية منه، و أن تكون المرأة أيضا أحادية اللغة و الرجل مزدوج لها ، فهذا راجع بالأساس – كما تقول ياغيلو – إلى ” الوضع الاجتماعي الدوني للنساء …مادامت لا تبرح المنزل”(16)، بسبب الحجر الذي فرض عليها. هكذا يجنح المخيال الذكوري إلى التبسيط المفضي إلى التعميم. فبدل مساءلة ” العوامل النفسية الفطرية ” و تفكيك صلتها بالخطاطات الثقافية ، يتم اللجوء إلى تسويغ ” الجنسانية ” التي تقوم علىثنائيات مهيمن/خاضع، فاعل/منفعل، موجب/سالب ، ملائكي/شيطاني…بإرجاعها إلى الطبيعة و إقناعنا بأنه ليس ثمة  أعدل مما كان .

ما لا يؤنث لا يعول عليه :

يرى شارل فوريي أن مطلب تحقيق المساواة بين الرجال والنساء ليس مستحيلا و الأمر منوط بالدهاء و ترتيب الأولويات. إن اللغة

متحيزة وليس ثمة استثناء. فجميع اللغات الكونية في الميز الجنسي سواء. هذا من المعلوم  في التاريخ بالضرورة. فاللغة صنيعة           الرجال، وكل صنعة لها حقوق وواجبات وقواعد و اشتراطات  وإلزامات  تتماشى بطبيعة الحال مع أهواء و رغبات و مصالح الصانع. ومادامت كل صنعة إنسانية إلا و تحمل في طياتها شرط وجودها التاريخي، فهذا يجعلها قابلة لإعادة النظر فيما يبدو متجاوزا  أو لا يقبله العقل السليم. كيف يمكن مثلا قبول تصنيف المرأة في دائرة الجماد أو ضمن الكائنات غير العاقلة؟ ولم تدرج المرأة حصرا ضمن الآلات المساعدة على إثارة استهام الرجل بفحولته و مركزيته ؟  ألا يعين الاستبطان النسائي لشروط الدونية على إسباغ الطابع القدري  لهذا التمييز؟ هل يجب كما ترى ياغيلو ” المطالبة بخصوصية أنثوية  و ضمن احترام المساواة في الحقوق أو الانصهار في رحى مذكرة ؟ “(17) وهل رفض “الأنثنة ” لأسماء الفاعل والصيغ الدالة على المؤنث يؤديحتما إلى المساواة ؟ أم هذا الرفض له أثر معاكس يكرس التراتبية       الاجتماعية ؟ تقر ياغيلو  بلا لف أو دوران بمسؤولية النساء في إبطاء حلم المساواة من خلال استبطانهن للتراتبية المتعالية التي تجعل ذكورية اللغة مثالا يحاكى. وقد سبق للراحل جورج طرابيشي أن أظهر اعتمادا على المنهج النفسي تهافت بعض “الكتابات النسوية “(18) التي جمعت في بنية مفارقة بين إيديولوجيا شعورية مناصرة للمرأة و إيديولوجيا لاشعورية معادية لها. لا يلوم طرابيشي نوال السعداوي على تمردها

على ” مستعمرها ” ، بقدر ما يؤاخذها على تماهيها معه و استبطان لأيدولوجيته الجائرة عليها. ضعف المرأة البيولوجي ليس ذلة ، بل هو لغزها الجميل. إنه وظيفة للجسد ليس إلا. وفحولة الرجل ليس امتيازا بل مسؤولية أيضا. و من ثمة ، فإن ” حسد القضيب ” (19)، أو قلب هيمنة الذكور بهيمنة الإناث يعد رعونة فكرية ما أحوج الفكر النسائي المتمرد بتجاوزها./ على سبيل الختم:لا يؤتي النضال ضد ” لغة الاحتقار ” أكله برفض ” الأنوثة “، واعتبار جسد المرأة سبب الاستلاب، كما زعمت سيمون دوبوفوار، أو بالتماهي  مع لغة القامع /المهيمن، كما فعلت نوال السعداوي، وإنما عبر تجاوز” النضال من أجل الحق في التعبير والكلام، من أجل الحق في تحديد هوية، في الحق في امتلاك اسم، أي نضال ضد لغة الاحتقار.”(20).

_ هوامش :

1 مارينا ياغيلو(الكلمات و الأشياء ) تقديم و ترجمة سعيد بنكراد،

المركز الثقافي للكتاب الدار البيضاء الطبعة الأولى، 2021، ص:9.

2 من المفارقات أن النابغة حكم بشاعرية الخنساء وهي الدجاجة ضد

حسان بن ثابت وهو الديك.

3 انظر الفصل الثالث والعشرون من المقدمة، باب ” المغلوب مولع أبدا

بالاقتداء بالغالب.

4 نفسه، ص:10

5 نفسه، ص:251

6 نفسه، ص:173

7 نفسه، ص:285

8 احتقرت اللغة العربية المرأة في خمس مواضع وهي:

إذا كان الرجل على قيد الحياة يقال له حي، أما إذا كانت المرأة

على قيد الحياة سيقال لها حية.

إذا أصاب الرجل في قوله أو فعله يقال له مصيب، أما إذا أصابت

المرأة سيقال لها مصيبة.

إذا تولى الرجل مهنة القضاء يقال له القاضي، أما في حالة المرأة،

سيقال لها قاضية.

إذا أصبح الرجل عضوا في أحد المجالس يقال له نائب، أما في

حالة المرأة، سيقال لها: نائبة.

إذا كان الرجل متعلقا بإحدى الهوايات يسمى هاو، أما في حالة المرأة،

سيقال لها: هاوية.

9″ الكلمات والأشياء” نفسه، ص:21

10 نفسه، ص:117

11 نفسه، ص:23

12 نفسه، ص:310

13 نفسه، ص:279

14 نفسه، ص:130

15 نفسه، ص:17

16 نفسه، ص:88

17 نفسه، ص:230

18 جورج طرابيشي” أنثى ضد الأنوثة  دراسة في أدب نوال السعداوي على ضوء التحليل النفسي .” دار الطليعة، بيروت، 1984 ،ص: 45

19 ” الكلمات و الأشياء ” نفسه، هذه الترجمة التي يقترحها بنكراد لجملة:

ص:68. Envie du pénis

20 نفسه، ص:328

 

 

 

 

 

 

 

الاخبار العاجلة