الإنسان العاري، الدكتاتورية الخفية للرقمية

93 مشاهدة
admin
ترجمات
الإنسان العاري، الدكتاتورية الخفية للرقمية

 

مقدمة المترجم

سعيد بنكراد

صدر الكتاب الذي نقدم ترجمته لقراء العربية في نهاية ماي 2016 . وقد تزامن صدوره مع صدور كتاب آخر عنوانه ” أنا أوسيلفي إذن أنا موجود، تحولات الأنا في العصر الافتراضي”[1]، وهو من تأليف محللة نفسانية فرنسية تُدعى إلزا غودار(Elsa godart)، وقد صدر الكتابان في الشهر ذاته والسنة ذاتها وفي المدينة ذاتها، باريس. وكلاهما يشير إلى وجود خطر يهدد البشرية في مناطقها الأكثر أصالة: الذاكرة واللغة. فلم يعد الافتراضي لعبة عارضة في حياة الناس، بل تحول إلى وجود حقيقي له  ” هوياته” و”أنواته” وضمائره ومساحاته وفضاؤه وزمانه.

يتناول الكتابان معا القضايا نفسها، أي كل ما يتعلق بالآثار الكارثية التي خلفتها الثورة الرقمية على الشرط الإنساني، ما يعود إلى علاقة الفرد بالزمان وبالمكان، وعلاقته مع نفسه ومع الآخرين، بل امتد تأثيرها ليشمل مجمل الأنوات التي بها يحيا الفرد، وهي ما يشكل “هوياته” الموزعة على فضاءات لا يلعب فيها الواقعي سوى دور بسيط، وعادة ما يكون مجرد ممر نحو عالم افتراضي لا حد لامتداداته. فعوض أن يبحث الناس في الحياة الحقيقية عن أصدقاء حقيقيين، راحوا يلهثون في الشبكات الاجتماعية وراء “صداقات” وهمية خالية من أي دفء إنساني. وهذا دليل آخر على أن الفضاء الحميمي يجنح الآن إلى الاختفاء، ” فالحياة الخاصة أصبحت شذوذا”، كما يؤكد ذلك صاحبا الكتاب.

لقد جاءت هذه الثورة بالخير العميم حقا؛ فقد كسب الإنسان بفضلها أشياء كثيرة: في المعلومة ومعالجتها وتداولها وفي الصحة وطول العمر والأمن والسرعة، ولكنه خسر كل شيء أيضا، الحميمية والحياة الخاصة والحرية والحس النقدي. لقد رُدت “هويته”، بكل غناها إلى دائرة الاستهلاك وحده؛ اختفى المواطن، كما اختفى التنافس السياسي وتعدد البرامج وتنوعها، لكي يُعوض كل ذلك بآلية ضبط سياسي صارم يتحكم في الرأي العام ويوجهه، وذاك ما تقوم به الشبكات الاجتماعية بشكل “ناعم” و”طوعي”، حيث يضع الناس فيها حريتهم عند أقدام فاعلين رقميين يعرفون عنهم ما لا يعرفونه عن أنفسهم.

إنها مفارقة غريبة، فلم تقُد هذه الثورة بإنجازاتها الكثيرة، كما كان مؤملا، إلى تجدد الإنسانية وتطورها، وإلى بلورة المزيد من القيم التي تحتفي بروح الأخوة والصداقة والكرامة، بل أعلنت عن ميلاد “فرد فائق”(hyper individu) يتحرك ضد نفسه وضد المجموع ضمن ممكنات ” واقع فائق” ( hyper realité). إنه إنسان “مزيد” بالافتراضي والبدائل الاصطناعية، ولكنه مُفرغ من الداخل. لقد اختفى الحلم والمتخيل والفعل الاستعاري عنده لتحل محله “الرغبة” و”الاتصال الدائم”، كل ما يتحقق في “اللحظة “، كما يمكن أن تُعاش في زمنية تنتشر في “فضاء أفقي” مصدره كل الشاشات: التلفاز والحاسوب واللوحات والهواتف المحمولة.

لا يتعلق الأمر بتمثيل مزيف للواقع، كما كانت تفعل ذلك الإيديولوجيا قديما، بل هو الإيهام الدائم “بأن الواقعي ليس هو الواقعي”، كما يقول جان بودريار؛ فعالم الحياة الفعلية لا يُدرك إلا من خلال مضاف افتراضي يُعمق غربة الفرد عن نفسه وعن واقعه، ويستدرجه إلى وحدة ” ينتشي” بها وسط الجموع. إن الواقعي ناقص، وتلك طبيعته، كما هو الإنسان ناقص أيضا، وتلك عظمته وذاك مصدر قوته. ولكن النقصان في الحالتين معا لا يمكن أن يعوض بالافتراضي، بل يجب أن يتجسد في فعل إنساني واقعي يسعى فيه الإنسان إلى التغطية على جوانب النقص في وجوده، وذاك كان مسعاه منذ أن استقام عوده وانفصل عن محيط صامت ليخلق تاريخه الخاص.

لقد امتد سلطان الافتراضية في عصر الرقمية لكي يشمل كل شيء. فهي الثابت في وجودنا. فنحن لا نكف عن اللعب بهواتفنا أو لوحاتنا، إننا لا نحس بالآخرين حولنا، بل نبحث عن سلوان ومواساة وفرحة ونشوة، أو حالات استيهام، في ما تقوله الصورة في أجهزتنا. بل إن الطفل ذاته لم يعد يتعرف على محيط بِكْر تبنيه حقائق ناطقة في وجوده المادي، فحقائق هذا الوجود وتفاصيله تأتيه اليوم بواسطة الصورة أولا، وبعد ذلك تلتقط عيناه أشياء تكون صورتها في وجدانه نسخة سابقة بُنيت في الآلة بفضل تعديلات ومضافات وتحسينات فوتوشوب، واستنادا إلى مسبقات المصوِّر ومواقفه أيضا.

لذلك لا يتردد الكاتبان في تشبيه كائنات الرقمية بعبيد أفلاطون. لقد وُضع هؤلاء في كهف مظلم تحت رحمة حراس يمنعونهم من الخروج ومن تصور عالم آخر غير عالم الكهف، وبذلك حُرموا من الشمس والحقيقة ودفء الحياة، لقد كانت ظلال أجسامهم وحدها تتحرك أمامهم وتوهمهم بأنها الحقيقة ولا شيء غيرها. إن الحراس في “استعارة الكهف” هاته هم أيضا “خالقو الوهم” وموزعوه في عصر الرقمية المنفلت من عقاله. فوابل الصور التي تنهال على الإنسان الرقمي تمنعه من رؤية الأشياء، كما هي في أحضان الطبيعة، لقد تحول البصري شيئا فشيئا إلى بديل كلي عن الواقع.

لقد نسي الناس ما يُصنف خارج الصورة، فالحقيقة فيها وحدها، ولم يعد من الممكن أن يستعيدوا وعيهم وحريتهم في رؤية الحياة خارج ما تقترحه الشاشة أو تدعو إليه. إنه الاستلاب المطلق، فما تقترحه الصورة كامل ومصفى وخال من تعقيدات لم يعد الذهن الرقمي قادرا على تحملها. وكما كان نرجس عاشقا لصورته وحدها، فإن الفايسبوكي لا يبحث في الشبكة سوى عن نفسه، عن شبيهه أو نظيره. إنه “يناضل” و”يحتج” ويتمرد” في الافتراضي، وتلك وسيلته المثلى للتعايش مع واقع يحيط به النقصان من كل الجهات. إن “أنا” واحدة لا تكفي، نحن في حاجة إلى “بديل” آخر هو الذي يغطي حضورنا في عالم موحش يحيط فيه “الأصدقاء” بنا من كل جانب، هو ما تسميه إلزا غودار ” الأنا الرقمية”، “إننا جميعا ولكن وحدنا”.

إن الصورة ليست مودعة في الكتب التوثيقية والألبومات العائلية، كما كانت قديما، إنها الآن منتشرة في كل مكان. لقد تراجعت حقائق الوجود وحقائق اللغة التي هي مصفاة وجودنا وسبيلنا إلى حقائق تُبنى في المفهومي والمتخيل، لتحل محلها حقائق الصورة وحدها، فلا شيء يستقيم بدون رديف بصري هو الذي يصدِّق على التجربة. فما نعاينه الآن هو اندفاع أهوج نحو حالات الاستعراء والاستبصار والتلصص والاحتماء الدائم بما يأتي إلى العين ضمن قوة البصري وحده، في انفصال عن موحيات النظرة وجماليتها. وذاك هو سلوك هواة “السيلفي”، فهم يتلذذون بالصورة كما يفعل كل النرجسيين الجدد، أو كما يفعل ذلك الخائفون من زمنية تُدمر كل شيء في طريقها: إنه القلق الذي يتحكم في ” كائن منذور للموت”.

لقد تغير كل شيء في حياة إنسان القرن الواحد والعشرين، لم يعد الناس يعيشون ضمن هذه الثورة باعتبارهم كينونة مستقلة تتغذى من القيم وتنتشي بكل مظاهر العزة والكرامة والاستقلالية في القرار وفي العواطف. لقد طمرت اللحظةُ ذلك “الثقب” الزمني الذي نطل من خلاله على المستقبل، وغطت عليه رغبات تتناسل باستمرار دون أن تقود إلى إشباع حقيقي. إننا نحيا الزمن باعتباره “لحظة أبدية”، بتعبير جان بودريار، أو ما يطلق عليه “الحضورية”، وهي صفة جديدة لزمن تخلى فيه الإنسان عن المستقبل والماضي بكل الحنين والأمل فيهما، لكي ينغمس في حاضر لا أفق له سوى نفسه.

لقد تخلى الناس عن كل شيء في حياتهم، كما يؤكد ذلك المؤلفان، تخلوا عن حميميتهم وحريتهم، وتخلوا عن حقائق واقع فعلي لكي يحتفوا بعوالم افتراضية أنستهم دفء الإنسانيه فيهم. فلا شيء في وجودهم يمكن أن يستقيم خارج الافتراضية والمواقف المبرمجة في الصور والألعاب والمعلومات التي تسربها الأجهزة الصريحة والخفية. لقد حل ” الأيدولون” ( الصور العرضية والهشة) محل اللغة. إننا لا نبني العالم كما توحي به كلمات مطواعة أو عصية، بل نكتفي باستقبال ما تقوله الصورة وحدها. لقد تخلت اللغة عن وظيفتها باعتبارها “بيتا للكينونة”، لكي تترك المجال أمام “إيموجات” (imogi)عرضية، ما يشبه لغة تكتب بالصورة تتساوي داخلها كل العواطف.

لقد أصبح سلوك الإنسان متوقعا، وبذلك فهو قابل للبرمجة والتوجيه. لقد كان بإمكان الشرطة وكل الأجهزة السرية أن تعرف عن الناس كل شيء، إلا ما تقوله النفس لنفسها، فتلك مناطق ظلت عصية على كل الطغاة. أما الآن، فإن الفاعلين في الميدان الافتراضي يعرفون عن المرء ما خفي عنه أو ما لم يفكر فيه أبدا. فهم يتتبعون خطواته في الإبحار ويتعرفون على ميولاته الواعية واللاواعية، ويلتقطون تفاصيل “شخصيته” من الصور التي يشاهد والبرامج التي يختار وتلك التي يرفض ومن الكتب التي يقرأ والفقرات التي يقفز عليها. وبذلك لم يعد للفعل السياسي أي معنى، فاللوغاريتمات كافية في توجيه الرأي العام، وهي التي تحدد له ” توجهه السياسي”، كما حددت له رغباته وشكل تحققها.

يعتقد “المبحر” أنه يتحرك في المكان وفي الزمان كما يوهمه بذلك “الوجاه الرقمي”، ولكنه ليس في أي مكان في واقع الأمر، فعندما يقرر الإبحار ينفصل عن الزمن الحقيقي لكي يُلقي بنفسه ضمن زمنية بلا حدود، هي في واقع الأمر “لحظة عائمة” لا تستقر على مضمون بعينه، لأنها مدعوة إلى التجسد في صورة تتغير مع كل “نقرة”. “يوهمه الاتصال الشامل أنه مرتبط مع كل الناس ضدا على الحدود وحواجز اللغات والثقافات، والحال أنه يتحرك وحيدا داخل فضاء افتراضي مفصولا عن العالم الواقعي”. “نحن بالفعل جميعا، ولكن بشكل انفرادي”، ” إننا جميعا، ولكن قلوبنا شتى”.

إن السر في كل ذلك، في تصور الكاتبين، يعود إلى ما يُطلَق عليه اليوم البيغ داتا (big data)، أي “مدونة المعطيات الشاملة” التي يمكن تجميعها حول الأفراد والجماعات انطلاقا من مواقع الفاعلين الكبار في ميدان المعلوميات، ومنها في المقام الأول غوغل وفايسبوك وتويتر وغيرهم. فهذه الآلية الاستخبارية الجديدة ليست مجرد حاسوب يقوم بجزء كبير مما كان يقوم به الناس من قبل، بل هو نظام رقابة شامل لا أحد يستطيع الإفلات منه. فنحن نتخلى طوعا لهذه البيغ داتا عن جزء كبير من حميميتنا وذاكرتنا مقابل اتصال مجاني نمارس من خلاله هويتنا في التلصص والنميمة والعبث الصبياني، وقليل من الفائدة العلمية.

لقد استطاعت الصناعة الإلكترونية، من خلال هذه المعطيات، أن تبرمج سلوك الناس وتحركهم وفق ما توده الآلة الاستهلاكية، أو ما يريده النظام السياسي. إنهم يعرفون عنا كل شيء: سلوكنا وعاداتنا في الاستهلاك وميولاتنا الجنسية، الصريحة والخفية، ورغباتنا، وآراؤنا في السياسة والاجتماع والإيديولوجيا. لم يعد الإنسان قادرا على الاختفاء أو التواري وراء الجدران العازلة، كما كان يفعل في المدن والقرى الصغيرة. إن عين الرقيب الإلكتروني تتسلل إليه اليوم في كل مكان. فكل نقرة يقوم بها المبحر تكشف عن ميل أو رغبة أو حالة استيهام ولكنها قد تُخفي ميلا آخر، بل قد توهم بميولات أخرى.

جزء كبير من المعلومات الخاصة بالمستهلكين يباع جهارا إلى الشركات الخاصة لكي تستعمله في البحث عن زبنائها، وجزء آخر منها يوجه إلى مصالح الاستخبارات في الدول الكبيرة والصغيرة على حد سواء. وهو ما يعني أن معطياتنا الرقمية لم تعد ملكا لنا، لقد سُرقت منا، أو نحن من وهبها لغوغل وفايسبوك نظير اتصال وعبث في الشبكات الاجتماعية، استولى عليها سادة الصناعات التكنولوجية بالمجان. كانت هوياتنا في السابق موزعة على البطاقة الوطنية والبطاقة البنكية وبطاقة الضمان الاجتماعي وبطاقة الوظيفة، وها هو يضاف إليها اليوم البطاقة الرقمية أو الافتراضية. فهذه البطاقة الأخيرة هي التي نضخ فيها معطيات تخصنا وتخص حياتنا وصحتنا ورصيدنا البنكي وطريقة إنفاقنا، وتقوم البيغ داتا بغربلتها وتوجيهها إلى الجهات المعنية بذلك.

 لقد سلمنا رقابنا طوعا إلى جلاد بلا سيف، إنه يفعل بنا ما يشاء برضانا وبدون ألم، فنحن من يزوده يوميا بمعلومات عنا، وبذلك نزداد ارتباطا به وتبعية له. وهكذا سنكون، بعد أن وضعنا مصيرنا وحريتنا بين أيدي رقمية تلتقط كل شيء يخصنا، ضمن الحالة التي يصفها دوستوفسكي في الإخوة كارامازف: “سنضع حريتنا عند أقدامهم قائلين، خذونا عبيدا عندكم، ولكن أطعمونا”. لقد قُضي الأمر، فقد أصبحت الرقمية جزءا من وجدان يُصَرِّف جزءا كبيرا من انفعالاته في الافتراضي. ومع ذلك، علينا ألا نستسلم لجبروت هذه الآلة الجديدة. علينا أن نقاوم بترشيد استعمالاتها بالحد من العبثي والاستخباراتي فيها حفاظا على حياتنا الخاصة بكامل النقصان فيها.

[1] -, Albin Michel, 2016 Elsa Godard : Je selfie, donc je suis, les métamorphoses du l’ère du virtuel وهو الكتاب الذي قمنا بترجمته إلى العربية وصدر عن المركز الثقافي للكتاب ، 2019 .

الاخبار العاجلة