عن شبكات التواصل الاجتماعي

67 مشاهدة
admin
مقالات
عن شبكات التواصل الاجتماعي

عن شبكات التواصل الاجتماعي

حكاية جائحة كوفيد 19 نموذجا

بين خلفيات ترجمة بنكراد وتأليف ريديكير

إدريـس جــبــري

 

تذكيرا أو ربط السابق بالراهن

في مقال سابق نشرته جريدة الاتحاد الاشتراكي في عددها رقم 13354  ليوم الجمعة 20 يناير 2023، تحت عنوان، عن شبكات التواصل الاجتماعي،  واقعة دولاند ترامب نموذجا، بين خلفيات بنكراد وتأليف ريديكير، وعدنا في نهايته بمقال لاحق يتعلق بشبكات التواصل الاجتماعي،  وجائحة كوفيد 19 سنة 2020، انطلاقا مما ورد في كتاب، شبكات التواصل الاجتماعي، حرب التنانين، الذي ألفه الفيلسوف الفرنسي روبير ريديكير، وما تضمنته مقدمة المترجم للسميائي المغربي  سعيد بنكراد، ومنجزه المعرفي في هذا الباب.

وكما هو معلوم، فقد كانت جائحة كوفيد 19 سببا لإعلان حالة الطوارئ الصحية، وحجز الناس في منازلهم الخاصة، أو بالأحرى في “مآرب” ومحميات و”حظائر” فيما يشبه الإقامات الجبرية” تفاديا لتفشي الجائحة. جرى هذا الحجر والعزل الاجتماعي تحت مراقبة السلطات الإدارية للدولة وتتبعها الحثيث. وهي التجربة التي عاشها المغاربة منذ 20 مارس 2020، شأنهم في ذلك شأن كثير من مجتمعات العالم. إنه “الحجر المعمم”، بلغة ريديكير، (ص279) الذي يمنع الناس من ولوج الفضاء العمومي، يحد من حركاتهم وتنقلاتهم، ويعرضهم للعناية الخاصة للدولة، وقُل لرقابتها المستمرة. إنها “نِعمة” شفافية شبكات التواصل الاجتماعي و”هبتها”. وهو ما كان وراء تحويل الإنسان إلى كائنات رقمية بلا روح ولا هوية، وبالتالي سبب تسريع ما أصبح يعرف  ب “البُعْدِيات“، من قبيل “العمل عن بُعد، والطب عن بُعد، والمُقبّلات عن بُعد، والمدرسة عن بُعد..(ريديكير، ص292)، فالبعد عن الحياة… وتلك حكاية أخرى من حكايات شبكات التواصل الاجتماعي، ستكون موضوع مقالة مستقلة أخرى”. وها نحن نفي بالوعد، وسنحكي، أولا، للقراء الكرام عن الخلفيات التي كانت وراء ترجمة سعيد بنكراد لكتاب روبير ريديكير، شبكات التواصل الاجتماعي، إلى اللغة العربية، بكثير من حِرفية التاجر وتَفاوضه، وخِبرة السياسي ومُساومته (بنعبد العالي، كأنك تقول الشيء نفسه، ص14- 11..)  وبسط مزيد من أسبابِ إكرام ضيافته وضيافة كثير من الكتب في هذا الموضوع( ترجمة كتاب، أنا أسيلفي إذن أنا موجود، وكتاب، الإنسان العاري…)، ونحن نعلم أن عينَه وقلبَه وعقلَه، في كل الأحوال، على القُراء بالعربية ممن فاتتهم فرصة الاطلاع على الكتاب باللغة الأجنبية، لسبب أو لآخر، فيصيرون ضحايا مُحتملين لتنين أهوج بدأ يزحف ويمسخ. وما نحن في المغرب سوى حالة من الحالات المعممة في العالم كله، وحالة جائحة كوفيد19، شاهدة على ذلك، كما سنرى لاحقا، وثانيا، سنحكي ونشرح ونزيد، ومن بوابة كوفيد 19 عن الخلفيات التي كانت وراء تأليف روبير ريديكير لكتاب في هذا الموضوع “الحارق”، وناقوس الخطر الذي يدقه من أجل الوعي بخطورة شبكات التواصل الاجتماعي وما يجري في العالم ويخططه أسيادها مع الغافام (GAFAM، أي Google, Apple, Facebook, Amazon, Microsoft) من جهة، ومن جهة أخرى مقاومة هذا التنين الجديد وممانعة سطوته الصاعدة، وهو يهدد سلطة الدولة وهِبتها، ويسعى للقضاء على إنسانية الإنسان في مرافق حيوية من حياته الخاصة والعامة والوجودية، وتحويله إلى كائن رقمي للاستهلاك ولا شيء سوى الاستهلاك.

أولا-  بنكراد وتجربة شبكات التواصل الاجتماعي  وجائحة كوفيد19،  ومعادلة العصا والجزرة

reseaux 1 1 - موقع سعيد بنكراد  2021

يبدو أن سعيد بنكراد قد ترجم كتاب، شبكات التواصل الاجتماعي، حرب التنانين، لروبير ريديكير، إضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه عن خلفيات تلك الترجمة ودواعيها، في المقال المذكور، ليُنبّه الإنسان المغربي والعربي، بخطورة الآلة على  حياة الإنسان وما تُعده له الثورة التكنولوجية بفتوحاتها ووعودها التي “تساعده على القيام بالكثير من الوظائف وتُحسنها” (ص13 من مقدمة المترجم)؛ بل ليدق ناقوس الخطر الذي تشكله على مصيره  بتحويله من حالة المواطن، وما يرتبط بالمواطنة ويلزمها، إلى حالة المستهلك بتداعياتها عليه. إنه يخاف، وهو يعلنها بقوة وترقب مستقبلي، أن “يترعرع بين ظهرانينا جيل يجهل كل شيء عن الحميمية والحياة الخاصة .إنه جيل سيتعرف على الحياة في اللوحة والشاشة قبل أن يرى تفاصيلها في محيطه. سيتعلم كيف ينتمي إلى الحياة كما تقولها الصورة، لا كما تقولها الأشجار وهي تنمو والورود وهي تزهر وتذبل في حدائق المدينة أو بساتين الأرياف” (ص25 من مقدمة المترجم). جيل تتحكم فيه الآلة ويصير عبدا لها. يتوهم أنها تخدمه وتوفر له خدمات بنقرات خفيفة، وفي فضاء مخملي أخّاذ يوفر له ما يشتهي فيشده ويُحكم القبضة حتى يُدمن عليه، ويصير له “وصفة علاجية”(ص14 مقدمة المترجم)،في كل وقت وحين، يتعذر التحرر منها إلى الأبد.

فمع شبكات التواصل الاجتماعي أصبحنا ، كما يقول المترجم، أمام إبدالي حضري جديد سيرسم معالم العالم في الأفق المنظور، ينبغي أولا، الوعي به وبقدومه واجتياحه  وبتحدياته المرتقبة، على حياة الناس وما بعدها، وثانيا، الاستعداد له بما يجب، على أساس اتخاذ المسافة الضرورية إزاءه وإزاء فتوحاته المُغرية، بما فيها الخدمات التي يعرضها، وباسم الدولة أحيانا، بالمجان، والتلقيح ضد جائحة كوفيد19 ما يزال علامة فاقعة في أجسادنا وأرواحنا،  وثالثا، التذكير بأن هذا الإبدال الذي يوفر فضاء افتراضيا يقيم فيه المُبحرون من الناس، ويتسابقون في الهجرة إليه، جماعات وفرادى، “كل الناس، المثقفون والمتعلمون والعامة، بل والمهمشون وسفلة القوم ودهماؤهم” (ص14-15 من مقدمة المترجم)، بكل حرية وديمقراطية،  ليس بديلا عن حقيقة الحياة بمآلاتها، وعِناد الواقع بتعقيداته.  إنه يحدر  أخيرا من خلال ترجمته لهذا الكتاب المرجعي في موضوعه، لخطورة الآتي على الإنسان وإنسانيته، وعلى “تنين” الدولة بهبتها وسيادتها، وعلى المجتمع وانسجامه واستقراره، وعلى السياسة ببرامجها واختياراتها،  وعلى الحرية ب”أوهامها” و”استيهاماتها”…

إن ما تحُوكه الخوارزميات المُصمَّمَة  في سلوك الناس ومواقفهم، وتحت رقابة “تنين” الغافام والقائمين عليه، والمستفيدين منه، أمر جلل، بالنظر  إلى ما يبدو أنها توفره لهم في الفضاء الافتراضي من شروط الراحة والحلم والحرية والتعبير والانطلاق، دون رقيب ظاهر أو ضاغط ثقيل، وهي لا تعلم أنها “لا تقوم إلا بما أريد لها أن تقوم به” (ص16 مقدمة المترجم). إنها خدعة شبكات التواصل الاجتماعي التي تساعد الناس على الثرثرة، وتوهم المبحرين  بأنها مرادفة لحرية التعبير عن الرأي، وتصريف الموقف، وقول الحقيقة، ومقاومة السلطة، وإن هي سوى “أضغاث أحلام”، وحكم الانفعالات والأهواء، أو “خطاطات من لحم وعظم ولا أعضاء” تتحرك في فضاء بلا معالم، تقضي فيها الناس حوائجها، من  تقديم العزاء والمواساة، وزيارة الأحبة والأصدقاء إلى رصد أخطاء الآخرين ونزواتهم، والتلصص على عوراتهم، وتصيد هفواتهم. وحالة مباراة المحاماة الأخيرة وتداعياتها مع وزير العدل  المغربي من الأمثلة الدالة في بابها، وقد التقطها “الديماغوجيون”، وأصحاب النوايا وذوو الحسابات، وأشعلوا نارها وأوقدوها وزندوها زندا، فضاعت المسافة، وتضخمت الذاتية وفاضت، عند من وصفهم المترجم، ب”الحائرين” و”الساخطين” و”المتمردين” و”الثائرين” و”الغاضبين” (ص21 من مقدمة المترجم)، من كل الفئات والأعمار، واختفت “حقيقة” المباراة وتبخرت صدقية نتائجها، وتضخمت الكراهية والبغضاء، وفاضت “الشعبوية” حتى طالت حميمية الوزير/المواطن وأسرته الصغيرة . وهكذا، فقدت الذاتية في الشبكات عقلَها” وتحررت من القيود التي كان يمثلها الاعتراف بالتفاوت الاجتماعي في المؤهلات، وتراتبية المعرفة ودور المؤسسات المعرفية والنظام الاجتماعي في حماية الذوق والفكر من أهواء العامة واندفاعها الأهوج” (ص22 من مقدمة المترجم). فتساوى بذلك الوزير والغفيـر، والخاصي والعامي، والعارف والجاهل، والمتعلم والأمي، بل وتساوى، بعبارات ريديكير،” الغبي والحاصل على جائزة نوبل، والتلميذ نِدّ للأستاذ”. (ص157 ص 238). هكذا، تساوت المقامات، وضاعت الهيبة،  وتنقح “عنف الوثوقية” بالبلاهة (بمضمونهما عند عبد السلام بنعبد العالي، البوب- فلسفة، ص68-73)، وارتفع منسوب العنف والكراهية والبغضاء ( ريديكير، ص145- 146). وتلك هي القوة الضاربة، بالعبارة الأثيرة لسعيد بنكراد، لشبكات التواصل الاجتماعي، تروج التفاهة، وتكرس الكسل، وتبشر بالشفافية والسطحية، وتوهم بالمساواة، بمعناها البيولوجي فقط،  وتنتصر للحلول السهلة دون عمق تفكير، وتذيع  الأخبار الزائفة، وأشباهها  عوض التحري عنها، وتغذي البغضاء، وتضخيم الإحساس ب”الحكْرة” بمضمونه في الخطاب “الشعبوي ” مُؤسطراً،  وتُنمي كراهية الذكاء على حساب الغباء، وكراهية المثقف لصالح الخبير والمحتج ، وكراهية الناجح لفائدة الفاشل المتقاعس. بعبارات موجزة فإنها تغذي كراهية حشود قاع المجتمع من الشعب “المثالي”،  وتؤجج أهواءهم  ضد “النّخب” الثقافية والسياسية “الفاسدة” تحت شعار (ارحل)، وهي تُعِد لنزع الثقة فيها وفي الدولة بكل مؤسساتها تمهيدا للحظة الهيمنة والضربة القاضية. والأخطر من ذلك، وبلغة بنكراد نفسه، “فإن الله ذاته قد فَقَد في هذه الشبكات الكثير من بهائه وهيبته، فقد أعرض الناس عن زمنيته، كما رسم حدودها في “واقعة العصيان” أو في “قرار الاستخلاف” أو في “فعل الخطيئة”. إنهم يعيشون اليوم  في شبكات التواصل زمنا بدون زمنية، إنها شظايا متعاقبة في الشاشة وحدها فلا فضاء يستوعب ممكناتها في التحقق. فهي بذلك لا تراكم خبرة ، ولا يمكن أن تجد لها موقعا ضمن خطية زمنية كانت بالأمس القريب، هي ما يضبط إيقاع الحياة…” (ص21 من مقدمة المترجم).

سبق أن أشرنا في مقال سابق مذكور أن القائمين على شبكات التواصل الاجتماعي والمستفيدين منها لم يكونوا سُذجا ولا أغْرارا  في حربهم على الدولة والإنسان على حد سواء. فهم لا يقصدون القضاء عليهما قضاء مبرما، وشل كل حركاتهما شلاًّ، بقدر ما يخططون للتحكم فيهما وتليين مفاصلها فحسب، لخدمة مصالحهم ولا شيء سواها.  ولربما لهذا السبب يحاول أصحاب الشبكات والمالكون لها الموازنة بين طرفي معادلة العصا والجزرة، لترويض الدولة والإنسان على حد سواء وتدجينهما. والعصا التي تلقاها رئيس أمريكا الأسبق دولاند ترامب لما حاول أن يتمرد على شبكات التواصل الاجتماعي، بالرد بجرأة على تويتر، في مقابل الجزرة التي وفرتها للعناية بالمصابين الفعليين والمحتملين من أبناء “الشعب الطاهر النقي”،  وعلاجهم من جائحة كوفيد 19، من منطلق” الحب الأبوي” (ص83) للدولة نفسها، شاهدة على هذا “الزجر” و”الحب” في الوقت ذاته.  وقد أعجب المترجم نفسه وأُذهل بتجربة دولة المغرب في هذا المضمار. فرغم حصوله على التقاعد، أو نهاية خدمته في الجامعة، فقد سألت عنه الدولة بأجهزتها المعلومة، واتصلت به، وهو “المواطن الذي صار صالحا” عبر وسائل التواصل، بنية العلاج، والحصول مجانا، وفي أقرب مكان وزمان، على الجرعة الأولى والثانية للوقاية من داء كورونا، وهو يجتاح الفضاءات العمومية ويتربص بالمتربصين. فذلك من واجب الدولة الشريفة، وعربون حبها الأبوي وحنانها ل”مواطنها” وقد تحسنت سيرته، وحسُن سلوكه.  إنه “فن الجرعة“، كما نعته روبير ريديكير (ص184) التي اهتدت إليه شبكات التواصل الاجتماعي، وتنفذه الدولة بأريحية، وهي تراعي الموازنة بين السلطة والعنف.

في هذا الاتجاه، ألم نُعجب نحن المغاربة، والمترجم منهم، المصابين وغير المصابين بهذا الوباء الطارئ بما قامت به الدولة المغربية بمؤسساتها الإدارية والإعلامية والرقمية في هذا الإطار، والجهد المالي والاقتصادي والتنظيمي و”الإنساني” الذي أحاط بهذه العملية الضخمة؟ ألم نكن نحس بأننا محاطون بسلطات الدولة المغربية بعطف أبوي، وحنان أسري، ونحن في منازلنا محجورون بالتساوي، خائفون نعم، ولكن فضلاء. ننام  ونحلم وعين الشرطة والدرك والقوات المساعدة والجيش تَحرُسنا، وفي الوقت نفسه تراقب حركاتنا وسكناتنا، وتقيس شهيقنا وزفيرنا. كان منسوب إحساسنا كمغاربة بفخر الانتماء إلى الوطن/ الدولة/ المغرب، عاليا مقارنة مع ما يجري في كثير من دول الجوار وغير الجوار؟

كانت مناسبة انتشار كوفيد 19، بخلفيات أسياد  شبكات التواصل الاجتماعي، وعمالقة الرقميات، من جهة، وحرص الدولة  بمؤسساتها ضمان حضورها والدفاع عما بقي من سيادتها وهيبتها، مواتية لتدبير  الصراع بين التنينين. كان مجال الصراع هو ضمان الدولة لعلاج “المواطنين” وتدبير وسائل تصريفه، وفي الوقت ذاته مراقبتهم والتحكم فيهم بحجرهم  في منازلهم من جهة، ومن جهة أخرى التشجيع على برنامج رقمنة مؤسسات الدولة وتوظيفها في “البُعديات“، من قبيل “العمل عن بُعد، والطب عن بُعد، والمُقبّلات عن بُعد، والمدرسة عن بُعد.. (ريديكير، ص292)، والندوات عن بُعد،  والإعلام عن بُعد، والتشريع عن بُعد،  والقضاء عن بُعد… ذلك بعض ما كَتب عنه روبير ريديكير، وكشف عن خطورته على الدولة، ونبّه إلى تهديده للإنسان وأنسنته.

ثانيا- جائحة كوفيد 19 والعودة إلى الحجر الصحي بين العلاج والمراقبة والرقمنة

أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي، في العقود الثلاثة الأخيرة، ظاهرة كونية تستحق الرصد والتأمل والتحليل والتقويم. فبسبب الثورة الرقمية الجديدة أصبح  الفضاء الافتراضي يستبد بالواقع ويلتهم مجاله بسرعة فائقة. وكأننا  بصدد تأبين اللغة والثقافة والحضارة، وبالتالي الإجهاز على الواقع الحسي بتعقيداته ومقتضياته، وتشييعه إلى مثواه الأخير، لصالح الفضاء الافتراضي، عبر رقمنة الحياة الخاصة والعامة لكل الناس. ذلك ما تشهد له جائحة كوفيد 19 منذ 2020،  في كل البلدان والقارات. فقد كانت مسوغا للتشجيع على تنزيل ما هيأته الغافام، ومنذ فترة طويلة، لرقمنة الحياة السياسية والاجتماعية والإعلامية والصحية والتعليمية وتعميمها، وتسريع وتيرتها. وهي السياسة التي “انخرطت فيها الحكومات: لتتحكم في رعاياها بدعوى حماية أكثرهم هشاشة”(ريديكير، ص269)، وبِنيّة الاعتناء بهم، وضمان علاجهم.  وذلك مقابل مراقبتهم عبر حجرهم في منازلهم، ومعرفة كل صغيرة وكبيرة عنهم. إنها الشفافية ونهاية الحياة الخاصة التي تؤسس لها شبكات التواصل الاجتماعي، وتعمل على إنجازها وتعميمها. تلك حالة عاشها المغرب  والمغاربة، وغيرهم من بلدان العالم، بكيفيات مختلفة، ولأهداف موحدة.

إن الحجر بهذا المعنى، حجر معمم تم إقراره  بعد انتشار كوفيد19، و عَمِلت، على حد تعبير ريديكير، في نص طويل، وبالغ الأهمية والخطورة، نورده حرصا على تماسكه، وحفظ معناه:” هكذا سيأتي الحجر ليتمّمَ ما عملت الرقمية على بنائه بقوة في انطلاقتها، والقضاء على المنزل الخاص، وفي النهاية القضاء على البورجوازي. ستظلون في منازلكم وسنعرف عنكم كل شيء. ستختفي الحياة الخاصة وتنزع الخصخصة عن الأنا، ويحكم على الناس بالإقامة الجبرية، وتعودون كما كنتم من قبل. هذه دروس الحجر، والتغييرات التي جاء بها في علاقة الكائنات البشرية بالمجتمع: أصبح البقاء في المنزل هو الحياة العامة، البقاء في المنزل هو أن يقدم المرء نفسه إلى السلطات الإدارية والاقتصادية بكل شفافية. لقد أصبح بإمكان هذه السلطات معرفة ما يجري في كل منزل، كيف يستهلك المرء وكيف يعيش، ما هي عاداته وأوقاته واقتفاء أنشطته من خلال الأنترنيت. لقد جاء الحجر بتوزيع جديد للجبرية، جغرافية اجتماعية جديدة تلك التي كانت تطبخ بهدوء منذ سنوات، عبر استيعاب التجريد الرقمي للوجود الواقعي، التهام الفضاء الافتراضي للفضاء الواقعي” (ص275).

ربما لهذه الأسباب، ولخطورة الصراع بين تنين شبكات التواصل الاجتماعي، وتنين الدولة بمؤسساتها، خصّ ريديكير، فصلا خاصا ودالا في بابه تحت عنوان، “شبكات التّواصل الاجتماعي في قلب الحَجر”. وكأنه يريد أن يقول بأن من مارس سياسة الحجر على الناس وخطط له، ليس هو الدولة، بل هي مجرد أداة للتنفيذ. فتنين الشبكات يخطط ويأمر، وتنين الدولة يطيع ويرضخ فيُنجز “صاغرا” ممتثلا. فقد فرضت الشبكات على الناس في العالم كله، وباسم الدولة وأجهزتها وبمقدراتها المالية والبشرية، الحجر في منازلهم،  وتعطيل مؤسسات الدولة، وتقييد حرية تنقلهم، وارتياض الفضاء العمومي الذي وُلد في زمن الأنوار والدولة الحديثة. وحدها رؤوس الأموال والسلع والفيروسات لها حق التنقل، وحرية اختراق الحواجز، دون رقابة. إنهم يخافون على الناس من مرض الكوفيد، ويحرصون على حجزهم ومراقبة تحركاتهم، كما تحرص الأم والأب على أبناءهما. ومع ذلك، سيتكرمون بالسماح لهذه الكائنات المحجوزة، بلا ذنب ولا جريمة ولا جريرة، ليتواصلوا مع من يشاؤون من الأصحاب والأقران، وما يحبون من الأقرباء والجيران، إلخ، ولكن عبر ما تسمح به شبكات التواصل الاجتماعي وتوفره، بل ولهم الحق المكفول للقاء من يرغبون، ولكن فقط عبر الافتراضي. “لقاء في مكان لا وجود له”. وهكذا، فالحجر هنا، كما تحدث عنه ريديكير زمن الجائحة، يُذكرنا بالحجر الذي تحدث عنه ميشيل فوكو في كتابه الشهير، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، وترجمه سعيد بنكراد (2010)، بجرعات كبيرة من الجنون(ص14 من مقدمة ترجمة بنكراد).  طبعا، مع مراعاة الفروقات والسياقات، وحتى طبيعة المحجورين والمحجوزين ونوعيتهم. فالكائنات المحجورة  أو المحجوزة، لا فرق، محاصرة في فضاء مغلق ومحروس ومراقب ومضبوط، وتشرف عليه عصرئذ (القرن17م)  “أمشاج دولة العصر الوسيط” وأجهزتها التنفيذية، ولكن محرومة من “خيرات” الأنترنيت و”هبات” شبكات التواصل الاجتماعي وما يتيحه الفضاء  الافتراضي “للمحتجزين” من “الحمقى” والمحجورين  من “العقلاء” من فرص التعبير” بكل حرية عن “آرائهم” ويتداولون في كل شيء، في السياسة والاجتماع وفي الموت والحياة والفضائح” (بنكراد، ص15).

وعلى العموم، يمكن القول بأن “شبكات التواصل الاجتماعي، وقد أضيف إليها التحاضر المرئي، تضع اللقاء الافتراضي محل اللقاء الجسدي والسيكولوجي. ماذا نعني باللقاء الافتراضي؟ إنه أولا لقاء لم يتحقق: إنه لقاء بلا مكان، لقاء في مكان لا وجود له. وهكذا تدمر شبكات التواصل الاجتماعي وبرمجيات التحاضر المرئي، زوم مثلا، الفضاء بمعنيين: إنها تدمر المسافة التي تفصل بين المتحدثين، وتُدمر المكان الذي يقع فيه هذا اللقاء” (ص281).  وجوه بلا ملامح، وأجساد بلا لحم ولا عظم قد تلتقي ولكن لقاء الشاشات، بلا جسد، وبلا مكان، ولا لغة ولا ذاكرة ولا دفئ ولا حضور. ذلك ما تسمح به الدولة وتقدر عليه، وتجيزه لها شبكات التواصل الاجتماعي وتجاز عنه.

وبناء على ما سبق، يشكل زمن جائحة كوفيد 19 منعطفا تاريخيا في مسار تاريخ البشرية، ولحظة مؤسسة لزمن ثقافي وحضاري جديدين لا قِبل لها بما كان . إنها ولادة  “إنسان ما بعد الكوفيد”(ص291)، وقد بدأ يتـرقمن، ويسعى إلى ذلك بحماسة وطواعية، وهو راض ومطمئن. إنه الإنسان المتصل، إنسان سمارت(Smart) القاطن في الفضاء الافتراضي “موطنا”  بديلا عما يُعاش في حقيقة الحياة، ففيه يُمارس الناس “اتصالا” لا ينتهي أبدا.”(ص14،من مقدمة المترجم). هذا بعض ما سوغ لشبكات التواصل الاجتماعي والموجهين لها،  تشجيع “البُعديات“، وتسريع وتيرة تعميمها في كل مناحي الحياة، كما سبق ذكره، وإن كنا سنركز لاحقا على مدخل التعليم، وبالتحديد التعليم عن بُعد وشبكات التواصل الاجتماعي… ذلك موضوع لمقال وأُفق آخَريْن./.

 

 

 

 

 

 

 

 

الاخبار العاجلة