شهادة

9 مشاهدة
admin
مقالات
شهادة

ينتمي سعيد بنكراد إلى نخبة من الباحثين الذين تأثروا، بدرجات متفاوتة، بسياق سياسي وفكري ونفسي، ولَّد لديه شغفا خاصا بالمعرفة، وزرع فيه نزوعا مستداما إلى التحصيل والإنصات للجديد، والتحفز نحو التجاوز والتغيير. ولعل هذا الظمأ كان وراء المنجز الفكري والنقدي والترجمي اللافت الذي أنجزه سعيد بإصرار ظاهر على تخطي عوائق البحث والكتابة، التي يواجهها كل من اختار هذا السبيل لإثبات الذات، وإنتاج المعنى، والمشاركة في الحقل الفكري.

ومن المفارقات، عندنا، أن المشتغل بالفكر والثقافة يجد نفسه مطالبا بالانخراط في خمس جبهات على الأقل؛ أولها مساءلة هويته الشخصية بوصفه مُنتجًا للمعنى، وتقدير نوعية وظيفته وموقعه الاجتماعي، اعتبارا لمقاومات الاعتراف بقيمة الفكر وجدواه التي تصدر من أكثر من جهة؛ ثانيا، مساءلة التراث وثقل تاريخيته ورمزيته، سواء تعلق الأمر بالتراث العربي الإسلامي بعامة، أو بالتراث الثقافي والفكري الخاص بالمغرب؛ ثالثا، تصفية حسابه مع المقولات التي رسخها الفكر الاستشراقي والكولونيالي، خصوصا في بلد تعرضت نخبه ومجتمعاته لاختراقات ثقافية عميقة؛ رابعا، المشاركة في سيرورة التحديث الفكري والسياسي، سواء بالتدريس والتأليف أو بالالتزام العملي؛ خامسا، مواكبة تاريخ الأفكار والمعارف التي تستجد على الساحة الفكرية والمعرفية العالمية؛ بل قد يجد المفكر نفسه مضطرا إلى أن يقوم بمهمة الترجمة، أحيانا.

جبهات خمس تستدعي مقاربتها أو المشاركة فيها، فكريا أو عمليا، مهما كان مجال اختصاص هذا المثقف أو ذاك، ومدى انخراطه في هذه الجبهة أو تلك، ومدى تمكنه من معطياتها ومعارفها. ولذلك يُطوَّق المفكر عندنا بمهام كبيرة يندر إيجاد حالات مشابهة لها في ساحات فكرية أخرى.

هكذا وجد سعيد بنكراد نفسه، والجيل الذي يتقاسم معه الخوض في هذه الجبهات، منخرطا في عمليات التدريس، والتأطير، والبحث، والنشر، سواء أتعلق الأمر بنشر كتب أو بالمغامرة بنشر مجلة متخصصة -“علامات”-، من منطلق جعل المعرفة في متناول العموم، أو على الأقل في متناول الطلبة، والباحثين عن المناهج والأفكار التي تستجد في الإنتاج النظري والنقدي.

وبعد تجربة اعتقال صعبة ضمن انخراطه في خضم تطلعات اليسار الجديد إلى التغيير وإقامة مجتمع جديد، وبعد حصول سعيد على شهادة الإجازة في الأدب العربي غادر في اتجاه فرنسا، كما يحكي ذلك في كتابه “وتحملني حيرتي وظنوني، سيرة التكوين”؛ حيث شكلت باريس أفقا جاذبا لشاب من المغرب الشرقي عاش، كما يقول، “مفاجآت في المعرفة والعلم وفي الحياة أيضا” (ص 186)؛ ففي الوقت الذي كانت تغلب على جل الطلبة المغاربة الاهتمامات السياسية والإيديولوجية، ومتطلبات النضال، في ذلك الوقت، تبين له أن “الرؤية الحضارية لا تقيس الوجود بالربح والخسارة، بل بالرقي في السلوك والمزيد من الإنسية في حياتنا” (ص 187).

هكذا تبرَّم بنكراد من الانجذابات الإيديولوجية بالتدريج، ومن السجالات العقائدية السائدة بقوة حينها، وانغمس في مسار بدأه باستلهام درس السيميائيات، التي قال عنها، في كتابه “وتحملني حيرتي وظنوني”، أنها “كانت ولا تزال اختيارا حضاريا وروحا ثقافية، إنها طريقة في تصور المعنى وفي طرق اشتغاله، بل قد تكون نمط حياة أيضا. يتعلق الأمر بطريقة في التفلسف. لقد انطلقت من اللغة في بداياتها الأولى، فهي أساس كينونة الإنسان وجوهر وجوده، إنها منطلقه ومآله ومثواه، ولكن مداها اتسع بعد ذلك لكي يستوعب، ضمن آفاق تحليلية جديدة، كل الأشكال الرمزية” (ص 177).

ولعل السيميائيات، وخصوصا كما بَنَى صرحها “جوليان كريماص”، فتحت لسعيد بنكراد أفقا للتفكير في البحث اللامتوقف عن المعنى وفي أي نمط من أنماط العلامات. وقد جعل من مقولة هذا المفكر: “يجب أن نجعل المعنى قادرا على التدليل Il faut mettre le sens en état de signifier”، قاعدة لاستقصاء دلالات العلامات والأشياء، ما دام “المعنى سيرورة وليس معطى جاهزا، إنه يُبنى في ممارسة الناس، في الكلام، والإيماء والصورة والطقوس” (ص 130).

هكذا تبرم سعيد بنكراد من مستنقعات الإيديولوجيا وانخرط في أطر مؤسسية و”علمية”، بشكل تشاركي، مع نخبة من الزملاء لنشر المعرفة النافعة، الكفيلة باقتراح عناصر لفهم تحولات الزمن والثقافة، وبكشف استراتيجيات الخطاب والمصالح الثاوية في منظومات الكلام، والصور، بنقدها وتعرية هفواتها وما تعمل على السكوت عنه. وألَّف ما يتجاوز عشرين كتابا، وترجم ما يقرب من هذا العدد من الكتب جلّ موضوعاتها تدور حول الصورة، والإشهار، والتواصل السياسي، والتواصل الاجتماعي، مسترشدا في تآليفه، كلما تقدم في البحث والتفكير، بأكثر من تخصص، ومن منهج لكشف رهانات المعنى، واقتراح مداخل للفهم.

ولعل السبب الرئيسي لارتياد هذا الأفق المنهجي يتجلى في كون عمليات فهم الصُّورة، ومواكبة تحوُّلات مستنداتها التِّقنيَّة، وتأثير هذه المستندات على دلالاتها، واستيعاب مختلف مقارباتها؛ ليست أمرا سهلا أو متاحة دائما. لقد تعدَّدت المدارس والنَّظريَّات في دراسة الصُّورة وفي ما يندرج ضمن إشكاليَّة البصريِّ، واختلفت في اقتراح عناصرَ كفيلةٍ بتكوين فهمٍ مناسبٍ لمفارقات الصُّورة وانزياحيَّتها؛ لا سيَّما وأنَّ عوامل عديدة تتداخل فيها؛ حيث يتشابك النَّظر، والحركات، والأشكال، والألوان، والأصوات، والوعي، واللَّاوعي، وتلتقي بكيفيَّاتٍ معقَّدةٍ داخل المكان والزَّمن. ومن أجل إدراك الصُّورة وفهمها؛ تُشكِّل حاسَّة النَّظر أكثر الوساطات الَّتي تُسعف الذَّكاء في الاشتغال؛ إلى حد ذهب فيه البعض إلى القول بأنَّ النَّظر يشكِّل الأداة الرَّئيسة للفكر.

لذلك سلك سعيد بنكراد اختيارا مُتداخل الاهتمامات لمحاولة الاستفادة من الانفتاحات المنهجيَّة والفكريَّة لكلِّ اهتمام؛ من أجل الاقتراب من فهم الأبعاد الدَّلاليَّة والرَّمزيَّة الكثيفة للصُّورة، سيَّما وأنَّها تكتسب، في كلِّ مرَّةٍ، مظاهر وأشكالاً وتجلِّيَّات ومعاني جديدة قياسا إلى تطوُّر المجتمعات والثَّقافات والتِّقنيات والسِّياسات. لا سيما وأن كل من يفكر في هذا الموضوع الإشكالي يعرف أن اجتهاده يندرج في سياق منعطف نظري وأنثروبولوجي يقضي بالقولُ إنَّ الإنسانيَّة، وبعد أن تعوَّدت مدَّةً طويلة على “البراديغم” اللِّسانيِّ؛ انخرطَت منذ ما يربو على نصف قرن، في منعطفٍ “إيقونيٍّ”، أو “براديغم” بصريٍّ تحتلُّ فيه الصُّورة السِّينمائيَّة مكانةً مركزيَّة؛ مسنودةً في ذلك بالتِّلفزيون، وبالوسائل الرَّقميَّة الجديدة، بحكم امتلاكها قدرةً هائلة على الإظهار، وعلى إنتاج المعنى.

وبقدر ما نحن بحاجة إلى الاجتهادات النَّظريَّة المختلفة؛ الَّتي تناولت الصُّورة وتحوُّلاتِها الدَّلاليَّةَ في ضوءِ ما تشهده مِن تسارعٍ تقنيٍّ غيرِ مسبوق، فنحن، أيضا، في حاجة إلى المزيد من المشاهدة، والانتباه والتيقظ. لذلك يعتبر بنكراد، في “وتحملني حيرتي وظنوني”، عند حديثه عن مظاهر العبودية الطوعية التي أدخلتنا إليها وسائط التواصل الاجتماعي، أن الحياة لم تعد “تقاس بما يمكن أن يقع فعلا في الواقع، كما كانت قديما، بل أصبحت تقاس أيضا بما يمكن أن يُقال أو يُصور في الفضاءات الافتراضية، فلا وجود لفواصل بين السلوك الفعلي وبين ما يبنى في المتخيل، ولا وجود أيضا لفواصل بين الأصل والنسخة، بين الحقيقي والمزيف. إن المزيف ذاته أصبح حقيقة…

لذلك فهو يعلن أنه لم يستطع “التكيف مع هذه الموجة الجديدة من أشكال التواصل التي أخذت بعقول الناس، الصغار والكبار والنساء والرجال والمتعلمين والمثقفين والأميين… والحال أن حضوري في الافتراضي لن يكون أبدا دليلا عن وجودي، فأنا لا أريد أن أكون مجرد ذكرى عابرة في شبكة تتغير ذاكرتها باستمرار…” (ص 318). فهو يعلن بنكراد أنه كائن “ورقي”، باعتبار أن “المكتوب الورقي التزام وموقف لا يمكن التراجع عنه. وخاصيته تلك هي التي جعلت الناس قديما يفكرون ألف مرة قبل أن ينشروا نصا” (ص 319).

الارتباط القوي بما هو ورقي لم يمنع سعيد بنكراد من أن يكون أكثر المثقفين والباحثين المغاربة الذين انشغلوا، وبشكل مستمر، بإشكاليات الصورة، وذلك انطلاقا من الوعي اليقظ بالحاجة إلى كشف الاستراتيجيات المختلفة التي تتحكم في إنتاج مختلف تعبيراتها، وتعرية سياسات التلاعب التي ينهجها الفاعلون الكبار في التجارة، والسياسة، والثقافة. ولعل المتتبع النزيه لِما ينتج من دراسات ونصوص حول هذه القضايا باللغة العربية، سيلحظ أن منجز سعيد بنكراد حول الصورة الإشهارية، وحول طرق توظيف المستندات البصرية في الانتخابات، ورهانات اللغة في علاقاتها بالصورة في السياسة من أهم ما عُرض على الحقل العلمي والنقدي المغربي حول هذه الموضوعات طيلة العشرين سنة الأخيرة؛ بل إن شغفه بالصور والأساطير والاستعارات الممتدة في المتخيل والزمان والوجدان دفعه في إصداره الأخير “السرد الديني والتجربة الوجودية”، إلى إبراز وظائف المجازات في “خرق القوانين التي تتحكم في التداول اليومي للأشياء والكائنات والكلمات”، كما يقول. وهو في ذلك يُعبر، في كل مرة، عن حيوية متفردة في الفكر، وعن التزام مبدئي بالحاجة الدائمة إلى كشف المعاني، ونقد المسبقات، والتحرر من مختلف أشكال العبودية.

https://www.hespress.com/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%83%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%8A-%D8%A3%D9%81%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%86%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AF-%D9%85%D9%81%D9%83%D8%B1-%D9%85%D9%84%D8%AA%D8%B2%D9%85-%D9%85%D8%A8%D8%AF-1298268.html

 

الاخبار العاجلة