حوار : جريدة المساء

56 مشاهدة
admin
حوارات
حوار : جريدة المساء

 جريدة المساء، حوار مع :سعيد بنگراد

أجرى الحوار : صلاح بوسريف

ماي 2020

ــ نقرأ عن الجوائح، سمعنا عن كثير منها، اعتقدنا أننا أكبر من الجائحة في زمن التطور العلمي، لكن، يبدو أننا كنا واهمين، لأننا الآن في عنق الزجاجة. أنت سي سعيد، كيف تنظر إلى هذا الوضع الذي صرنا فيه مثل الرجل المعلق عند ابن سينا، لا نحن من أهل الأرض، ولا نحن من أهل السماء؟

– لا أعرف عن هذا الداء إلا ما يعرف عنه أغلبية الناس، ولا أعرف عن وضعنا، النفسي والصحي والاقتصادي، أي شيء، وأعتقد أن القليل من المغاربة يعرف حقا ما يحدث. فالدولة لم تغير من طبيعتها، هناك شيء ما أو أشياء لا يمكن، أو لا يجب أن تُعرف. فالدوائر الرسمية وحدها هي من يقرر في ما يجب أن نعرف وما يجب ألا نعرف. وقد صرح رئيس الحكومة، في “لحظة تواصلية” سوريالية، أنه، بصريح العبارة ودون كذب، لا يملك تصورا، ولكنه يملك الكثير من السيناريواهات حول الصحة والتعليم والاقتصاد. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا في بلد “الاستثناء”، ففيه وحده يمكن للإنسان أن يبلور سيناريوهات دون أن يعرف أي شيء عن التصورات التي تسندها ( لا يمكن لأي سيناريو أن يستقيم إلا إذا كان جوابا عن سؤال). والحال أن من أوليات التواصل السياسي الإقناع، فالسياسي لا يُخبر، إنه يؤثر في الناس، ولا يمكن أن يؤثر فيهم بجهله لقضايا تعنيهم.

وليس عيبا أن نقارن وضعنا بوضع غيرنا، فما يجري في الدول التي نعرف لغتها على الأقل، هناك حوار دائم في كل القنوات حول كل شيء، المرض والصحة النفسية والجسدية، والأرقام وتطوراتها، والحجر وطريقة رفعه وكيف يقضي الناس أوقاتهم أثناءه، وطبيعة البروتوكول العلاجي، واختلافاتهم حول ما يصلح وما لا يصلح فيه، والكثير من التفاصيل العلمية التي أشاعها هؤلاء كوسيلة مثلى للدفع بالمواطن إلى الانخراط في مواجهة هذه الجائحة، فالحجر في زمن الجائحة ليس قرار دولة يخص تدبيرا اقتصاديا أو اجتماعيا عارضا، بل هو مصير أمة بأكملها، فيجب أن يعرف المحجور كل شيء عن وضعه لكي يكون قادرا على تحمل حجره.

أما ما يعود إلى العلم وقدرته على حماية الناس أجمعين من جوائح الطبيعة والمجتمع، فلا أعتقد أن هناك عالما واحدا في الكون يمكن أن يدعي اليقين، أو الإجابة على كل أسئلة الحياة، فما يؤسس العلم هو الشك وحده، والشك ليس عدما، بل هو أفق للتفكير، فنحن لا يمكن أن نبلور حقيقة من يقين سابق، بل نقوم بإطلاق فرضيات تؤسس لحقائق لها علاقة بما يؤسسها، لا بما يجعها منتهى كل تفكير. لذلك استطاع الأطباء التصدي للكثير من الجوائح التي مرت، وسيفعلون الشيء نفسه مع تلك التي ستأتي لا محالة. إن اليقين من خصائص الدين وحده، فهو لا يمكن أن يبني حقائقه إلا ضمن المطلق والثابت والقطعي.

والتباين بين موقف العلم وبين اليقين هو أنهم هناك يبحثون بكل الوسائل عن علاج فعال وعن لقاح، ويختلفون في سبل الوصول إلى ذلك، أما نحن ففريق كبير عندنا يرفض أن تُغلق المساجد أو تُعلق صلاة التراويح، حتى ولو أدى ذلك إلى هلاك المئات من الناس. بل هناك من يشكك في هذه الجائحة أصلا، أو هي في أسوأ الحالات بلاء من الله لعباده، ولا أعرف كيف يتلذذ الله بقتل الناس فقط لمجرد الفرجة.

ــ أنت تقرأ العلامات والإشارات وملامح الأشياء، من خلال ما تُتِيحه من دلالات، ما العلامات الفارقة التي استشعرتها في هذا الوباء، اجتماعيا، اقتصاديا، وثقافيا، وحتى على مستوى السلوكات العامة للناس؟

أنا لست قارئا للعلامات ولا أدعي ذلك، أنا مجرد مواطن يحاول أن يعرف شيئا ما عن الشرط الإنساني وما يفرزه من قلق يستوطن كل شيء في محيطه. قصارى ما يمكن أن أقوله هو أن ما نعيشه في هذه الأيام ليس شيئا طارئا، فالبشرية عاشت طوال حياتها على الأرض بالخوف والقلق البيِّن تارة واللاواعي في الكثير من الحالات. وتلك طبيعة الإنسان، فالله ذاته الذي يُقال إنه هو من خلقه جعله هلوعا وجزوعا ومنوعا، بل جعله “أكثر شيء جدلا”. فكل الأجيال التي تعيش الآن فوق الأرض لم تر في حياتها جائحة مثل هاته أو ما يشبهها، ولم تعش الأهوال المترتبة عن ذلك ( عدا فترات ما يسمى بأعوام الجوع، وهي بسيطة قياسا على ما تقوم به الجوائح). ولكن الكل يتذكر، بالمعاينة الفعلية أو من خلال كتب التاريخ والأفلام والروايات، ما خلفته الحربان العالميتان الأولى والثانية. فلم تخسر البشرية فيهما الملايين من الأرواح فحسب، بل خلفت أحقادا وحزازات وعداوات ودمارا لا شبيه له في كل الجوائح والأوبئة التي مرت والتي ستأتي. مات الآلاف من الإيطاليين في هذه الجائحة، ولكن متاحف إيطاليا وجماليات معمارها وحدائقها مازالت قائمة. وهذه ميزة الجائحة، إنها تُخلص الأرض من الإنسان وحده، ففي هذه ” الحرب”، كما سماها الرئيس الفرنسي، هناك الآلاف من الضحايا بلا ساحة حرب، كائنات لم تحمل سلاحا ولم تخرج في مظاهرات تطالب بإسقاط نظام الحكم. الإنسان فيها أعزل بلا سلاح.

إن الجائحة حالة نفسية في المقام الأول، ففي الحرب يعرف الناس من يقتل من، وأين وقع ذلك، ومتى، ويعرفون أن هناك أقبية ودهاليز يمكن أن تحميهم من القنابل والرصاص، في الحرب يبحث الناس عن بعضهم بعضا، إنهم يتحدون ويتجمعون، ويقتسمون آلام الموت ولحظات الأسى ويُبدون قدرا من الشجاعة للوقوف في وجه عدو يمكن القضاء عليه. الأمر مختلف في الجائحة،  فالناس يرون الموت في وجوه بعضهم البعض، فكل فرد يمكن أن يكون قاتلا يحمل الموت في لعابه أو يديه. إن الموت حاضر في الشوراع والأسواق، إنه يحلق فوق رؤوسنا جميعا.

إن الجائحة تذكر بالساعة التي لا ريب فيها، إننا نهرب من أنفسنا إلى أنفسنا، تماما كما يكتشف المحجور محيطا كان أمامه دائما. وقد يكون هذا هو السبب في ما يشاع الآن عن تفشي حالات العنف بين الأزواج ( والكثير لا يعرف من يضرب من)، إن الجائحة شبيهة بالصاخَّة التي تحدث عنها القرآن تلك التي يفر فيها المرء من أخيه، وأُمّه وأبيه، وصاحبته وبنيه، فهي البَلِيَّةٌ، والتَهْلُكَةٌ، والدَاهِيَةٌ،  إنها لا تخيف بخطر الموت فيها، بل بالجهل بطبيعة القاتل. فما كان الإنسان يعيشه باطنيا في غفلة من نفسه، أصبح مع الجائحة يعيشه في تفاصيل حياته اليومية، لقد تحولت الحميمية التي تبعث على الدفء والطمأنينة إلى لحظة مكاشفة، ليس مع الآخر، ولكن مع الذات نفسها، وهذه اللحظة شبيهة بتجربة الموت كما يعيشها العقل فجأة وهو يشعر به يزحف نحوه.

في الجائحة يشعر الإنسان بالعجز والتلاشي والتحلل البطيء، إنه يعيد اكتشاف جسده وأعضائه، إنه يتحسسها خوفا من عطب آت أو مضمر فيها، إنه “جثة” في الاحتمال الوبائي. تختفي الابتسامة من على شفتيه، (الابتسامة وَعْد)، ويميل إلى الصمت، ويركبه هم وغم وقلق ورهبة من ينتظر الموت، ولكن لا يعرف متى سيأتي هذا الموت، وقد كان الخوف في الكثير من الحالات سببا من أسباب الموت.

وليس غريبا أن تستعمل اللغة الفرنسية ” الأربعين” la quarantaine كمرادف للحجر. فهناك في التقاليد المسيحية رابط لا شعوري بين الدنس وبين الإصابة بالمرض، فسكان المدينة أو الوافدون عليها، يوضعون في بيوتهم أربعين يوما سيأتي بعدها الموت أو الشفاء، فالرقم 40، في هذه التقاليد، له دلالة رمزية، فهو يشير إلى أيام الطوفان التي كانت 40 يوما في الإنجيل. وقد قضى السيد المسيح أربعين يوما في الصحراء، وتحتاج النفساء إلى أربعين يوما لتعود إلى طهارتها الأصلية، ويقتضي الحزن على الفقيد أربعين يوما هي فترة الحداد، وبذلك تحيل “فترة الأربعين” على رابط، مفترض في الدين، بين الدنس والإصابة بالداء. هي ذي طبيعة الموت في الجائحة، إن الميت دنس ويدفن دنسا بعيدا عن المعزين وحفل التوديع.

ــ المغرب، شرعنا نسمع الغربيين يطرون علينا، كوننا استبقنا الوباء، باغتناه، ربما، هل المغرب استفاد مما كان يدور حوله، أم أن هشاشة بنياتنا الاستشفائية، ووضعنا الاقتصادي، كانا بين ما أيقظ الدولة من غفلتها، وكانت، هذه المرة، في مستوى الحدث؟

-لا أعرف هل أشاد بنا العالم حقا أو شُبه لنا فقط، وقد أعلنت الكثير من الدول العربية، كما هي العادة، أن العالم أشاد بها واعتبرها نموذجا في التصدي للجائحة (الصين فعلت ذلك في صمت). ويدخل ضمن دعوى الإشادة هاته أيضا ما قاله رئيس الحكومة الذي تحدث عن “ملحمة” حقيقية، لا أحد يدري أين وقعت ومن هم أبطالها في الحقيقة أو الوهم (والبطل الحقيقي في هذه الجائحة هم العاملون في الميدان الصحي). ولا قيمة للإشادة في جميع الأحوال، فلن تصد عنا الوباء ولن تساعدنا على الشفاء منه. يجب أن نتعلم كيف نؤمن بقدراتنا ونتعلم كيف نقدرها حق قدرها دون اعتبار لشهادة الآخر، الأساسي هو ما ننجزه نحن فعلا ونقتنع به، وبعد ذلك إذا كان هناك من يشيد بنا فشكرا له. لقد فُرض علينا ما نحن فيه، والسلطات استعملت ما تتوفر عليه أمنيا واقتصاديا وصحيا، والمواطنون دخلوا مساكنهم خوفا من عدو لا يعرفون طبيعته، وجزء لا يستهان به، ظل في الشوارع لأن البيت الذي يأويه لم يكن في يوم من الأيام بيتا، بل كان مستقرا عارضا في ذاكرته يأوي إليه مساء في انتظار طلوع الشمس ليخرج إلى الشارع فهو مسكنه الطبيعي.

لذلك فالدولة قامت بما كان من الضروري أن تقوم به وإلا فقدت وظيفتها الأصلية. فنحن نؤدي الضرائب ونقوم بالواجبات تجاهها وتجاه المجتمع، ونستبطن المحظورات التي يقوم عليها البناء الاجتماعي، ونسهم أيضا في الاقتصاد الوطني استنادا إلى ميثاق يجعل الدولة خاضعة للمحاسبة كما نحن خاضعون لقوانينها. وغير ذلك نكون أمام دولة تتصدق على مواطنيها، أي جهازا منفصلا عن الحياة الاجتماعية التي يعيشها كل الناس.

 

ــ المواطن والمواطنة، هذه مشكلتنا الكبيرة في الشارع، وفي علاقة الناس بوطنهم، من يتحمل المسؤولية في اختلال هذه العلاقة، المدرسة، الأسرة، الدولة، المثقف، الأحزاب، جمعيات المجتمع المدني، من..؟

-لا أعتقد أن الناس يعانون من مشاكل في علاقتهم بوطنهم، فالمغاربة، كما هي حالة كل الشعوب، يحبون وطنهم. وهذه بداهة لا يمكن التشكيك فيها. إن المشكلة تكمن في علاقتهم بالدولة، هي ذي المعضلة. وأساسها أن جهاز الدولة عندنا لا يقوم على تعاقد صريح بين مواطنين يقبلون العيش ضمن فضاء مشترك استنادا إلى قناعات مختلفة تمارس فرديا، ولا تُفرض اجتماعيا. وهذا يعني وجود مواطنين لا يستجدون السلطة ولا يخافون منها، بل يعيشون وفق قانون وضعي يحمي الأفراد ويحافظ على المصلحة العامة التي هي أساس العيش المشترك، أي يمارسون حياتهم استنادا إلى تعاقد يجمع بين كل المواطنين ضمن فضاء عمومي يستوعب كل الاختيارات. والحال أننا لم نصل إلى ذلك، نحن نعيش ضمن “مجتمعات سيادية”، لا يخضع فيها الفرد من تلقاء ذاته لمؤسسات تحميه وتراقبه في الوقت ذاته، بل يعيش وفق أحكام لم تبلورها التشريعات، بل هي أساس نظام موجود فوق المجتمع. وضمن هذه المجتمعات السيادية تبلورت الكثير من الثنائيات منها الحداثي والتقليدي والكافر والمؤمن والمتشدد والمتسامح وكثير من الصفات التي تشير إلى انتماءات عرقية أو طائفية.

وليس غريبا أن تكون هناك تفاوتات في الالتزام بالحجر وبكل توجيهات السلطة أو أوامرها. فهناك من لا يحس أنه ينتمي إلى فضاءات الدولة وليس معنيا باختياراتها، وهناك من لا يعترف بها أصلا، وهناك من يعتبر نفسه خارج القانون أو فوقه. لا يعني هذا تبريرا لسلوك الرافضين أو اللامبالين، أحاول فقط من موقعي استحضار بعض المحددات التي تحكمت في سلوك بعض المواطنين. فأنا لست سياسيا يستجدي أصوات الناخبين، ولست إعلاميا معنيا بالخبر أي يلتقط الأشياء من خارجها، أنا أكاديمي أصف الظاهرة فيما هو أبعد مما يكشف عنها بعدها المادي. لذلك لم يوحد الحجر بين كل الناس، كما بدا للبعض، فالحجر في الفيلات الكبيرة والضيعات الممتدة في الطبيعة والشقق الواسعة ليس هو الحجر في “علب” معلقة في السماء تتقاسمها عائلات كثير عديدها.

إن “المنزل” عند الكثير من الساكنة لم يكن في يوم من الأيام فضاء للحميمية والعودة إلى الذات الواحدة أو الجماعية، لقد كان مقرا لستر مؤقت، أو ممرا نحو شارع هو الفضاء الوحيد الذي “يطمئن” فيه هؤلاء وفيه يمارسون حياتهم خارج “القيد المنزلي”.

إن الدولة لا تُسير بالشرطة، والناس لا يُحكمون بالخوذات في الشوارع، بل يُحْكمون بالقانون الذي هو انتماء طوعي لمحظورات أفرزتها ثوابت هي أساس العيش المشترك. وهذا يقتضي “حقا في الإنسانية”، أي ما يضمن شرط وجودنا ككائنات يجب أن تُحفظ كرامتها على هذه الأرض.

ــ المثقف اليوم معزول، الدولة لا تشركه في أي شيء، وكان مفترضاً أن يكون له دور في التوعية، في التحليل والقراءة في وسائل الإعلام، نجد بعض الجرائد، هي التي تتواصل مع المثقف، وتعمل على الإنصات إليه، لإرضاء بعض جوانب الحدث، من خلال قراءتهم وتفكيكهم للمعطيات. لماذا هذا الحيف والتهميش؟

-التوعية والتحسيس وكل المصطلحات الشبيهة ليست من وظائف المثقف. فهو لا ينزل إلى الشارع لكي ينادي في الناس أن ادخلوا مساكنكم، إنه يدافع عن خيارات يصبح الانضباط داخلها صيغة من صيغ التدبير اليومي السلوكي لمفاهيم العدالة والصدق والأمانة وغيرها. المثقف شاهد على وطنه ومسؤول أمامه وأمام الإنسانية جمعاء، إنه ينتج قيما هي التي يصرفها السياسيون والفاعلون في المجتمع المدني في تفاصيل السلوك اليومي. هي ذي صيغ التكامل بين مثقفين يحترقون بقضايا الإنسانية وقضايا وطنهم، وبين فعل سياسي لا يكتفي بتدبير الشأن الخبزي بل يسهم في بناء مجتمع عادل يحمي كرامة الإنسان.

وهذا هو الفاصل أيضا بين التواصل كما يقتضيه تدبير الشأن الاجتماعي (تدبير مستجدات الجائحة) وبين البحث المجرد، فالثقافة هي خروج عن طوع الطبيعة أولا، ونمط في العيش ثانيا، وحالة من حالات السلوك المهذب والراقي ثالثا. وضمن هذه الدوائر يمارس المثقف دوره خارج نجومية السياسي وحضوره الدائم في الفضاء العمومي. أما التواصل فشيء آخر، فعندما نُخبر يتوقع المُخبر رد فعل أو يدعو إليه، إنه ليس إخبارا بالمعنى الحرفي للكلمة، كما يقول دولوز، بل هو أمر، إنه سلسلة من التوجيهات أو النماذج السلوكية المحتملة، أو هو تحديد ما يجب على المواطن فعله. وهذا معناه أن البلاغ الصادر عن السلطة ليس نشرا لمعلومة، بل هو “أمر” يدعو إلى القيام بسلوك أو الامتناع عنه. وليس هذا دور المثقف، ولا يدخل ضمن اهتماماته، والسلطة تعرف ذلك. إنها لا تثق فيه أبدا، إنها قد تطمئن للخبير، ولكنها لا تضع ثقتها إلا في الأمني وحده.

ومن سخريات اللغات أو من عبث مستعمليها أن الكمامة الواقية التي عممتها علينا السلطة بقوة القانون الزجري، مستوحاة من خاصيات البهائم، فالكمامة عندها زجر لها من أكل الحشيش النافع أو حماية لها من أذى الذباب، فالتكميم تقريرا وإيحاء ليس صمتا، بل هو منع من الكلام. لذلك عندما بدا للحكومة، التي أنكرت علينا استعمال الكمامة في البداية، ضرورة وضعها فعلت ذلك ليلا عبر القنوات التلفزيونية لكي نمْتثل صباحا للأمر درءا لغرامة أو مدة حبسية لا راد لقضاء الحكومة فيها، ولم تمهلنا يوما واحدا. وهذا من غرائب الجائحة أيضا.

في حين يحيل نظيرها في الفرنسية masque على القناع، أي على المسرح والكرنفال وحفلات التنكر، بل هو مجازا هروب من أعين الناس والعودة إلى الذات، كما هي في ذاتها في تفكيرها ووحدتها ومصيرها. تماما كما كانت السياسة عندنا إحالة على من يسوس الإبل ويرعاها ويعود بها مساء إلى حظائره، وكانت السياسة عندهم طريقة في التداول في شؤون المدينة. إن السلطة حاضرة في الكلمات أيضا، فما يحمينا من المرض ويقينا شر الفيروس هو ذاته ما يجنبنا ” طول اللسان” أيضا.

وقد كان فوكو محقا حين أعلن أن المدن التي يجتاحها الطاعون هي النموذج الذي تحلم به سلطات كل العالم، فهي، على عكس ما تقدمه الاجتهادات الفقهية، لا تحتاج إلى بنود وفصول من القانون لاحترام حقوق الناس، إنها تلغي القوانين أو تعطل العمل بها وفق ما تبيحه حالة الطوارئ. إنها تطلق يد السلطة لتقرر استنادا إلى ما يشيعه الوباء من خوف، لا إلى ما يمكن أن يحميهم من شره فقط.

 

ــ المؤسسات الثقافية في المغرب، صامته، بل إنها كانت في وضع الحجر حتى قبل الجائحة، هل يمكن النظر إلى دور هذه المؤسسه باعتباره انتهى، أم الأمر يحتاج إلى تجديد دمها، بتصورات ورؤى تُساوق العصر، والمتغيرات التي تجري على الأرض. على الأقل، كان يمكن أن تكون هذه المؤسسات حاضرة في العالم الفتراض، وفي قنوات التواصل التي باتت هي ناقذة الناس على بعضهم البعض. الخلل، أين يجري، في نظرك؟

– عن أي مؤسسات تتحدث ؟ فنحن نعيش مرحلة من أغرب المراحل في حياتنا. لقد أصبحنا شعبا بلا صوت، سقط مفهوما الأقلية والأغلبية، نحن نعيش في “ديمقراطية” بدون معارضة، وهذه أغرب الديموقراطيات وأكثرها نشازا. لم يعد للفعل السياسي أي معنى، فالأحزاب تقتتل فيما بينها أيام الانتخابات وتعود بعدها لتأتلف ضدنا وفق تكتيكات سياسوية لا دخل للشعب فيها. لقد تراجعت الأحزاب واختفت النقابات، والدولة الآن تواجه الشعب خارج من يمثله، وهذه الحالة هي التي تعشش فيها كل أشكال التطرف، السياسي والديني والطائفي وغيرها من “الجوائح الفكرية” التي أصبحت منتشرة في مجتمعنا.

المنظمات الثقافية ذاتها التي يقال إنها مستقلة وتمارس الفعل الثقافي خارج إكراهات التوجيه السياسي، ليست كذلك في واقع الأمر، ولم تكن في يوم من الأيام موجهة لخدمة فعل ثقافي خالص. لقد كانت مؤسسة لتصريف المواقف السياسية في الميدان ” المدني”. وليس غريبا أن يتشرذم اتحاد كتاب المغرب بمجرد ما تغيرت قواعد اللعبة السياسية وتغير مفهوم المناضل والمعارضة وكل الكلمات التي كان تشكل تهمة في ذاتها في مرحلة من مراحل تاريخنا.

ـ المدرسة، الجامعة، أو ما يسمى بالتعليم عن بُعد. لا تكوين للأساتذة، ومنهم من لا يعرف استعمال الحاسوب أو الكتابة عليه، ولا تكوين للتلاميذ، ولا للإدارة، العمل يبدو كمن نرميه في ماء لا يُجيد السباحة فيه. ما المطلوب بعد الجائحة في هذا المعنى؟

-لا أريد الحديث في هذا الموضوع. لأن الوضع في الجامعة مأساوي لحد اليأس. وقضية التعليم عن بعد بدعة فرضتها الجائحة، ولم تكن جزءا من استراتيجية بيداغوجية عند الدوائر المسؤولة أبدا. لذلك لا يُلام الأساتذة إن كانوا قد قصروا في ما طُلب منهم. أضف إلى ذلك أن الجامعة ذاتها انتهت كمؤسسة للمعرفة ونشر العلم، أو في شبه المنتهية. لم تعد مرتبطة بالشغل كما كان يقال قديما، لا، إنها لم تعد تنتج اليوم مواطنين أيضا، لقد تحالف ضدها السلف والخلف واليسار واليمين، وانضم إليهم الآن جزء من هيئة التدريس، فالكثير من رؤساء الشعب أصبحوا موظفين عند العميد أو من يقوم مقامه. لم يبق هناك سوى قلة من الأساتذة الذين مازالوا يمارسون مهنتهم بشرف وكبرياء ويواصلون أداء مهمتهم وسط عالم تحكمه التفاهة والرداءة. ولهؤلاء كل التقدير والاحترام.

ــ في حجرك الصحي، أعرف، أنك ستكون منهمكاً في عملك، لأن المثقف دائما في وضع حجر ثقافي، ما الذي يشغلك، وهل للجائحة دور في ما تفكر فيه، أم الأمور تسير عندك بوتيرة أيامك العادية؟

-أقوم بما كنت أقوم به دائما. ولا أفكر في الجائحة إلا قليلا، فالجوائح تحيط بنا دائما، ولكننا لا ننتبه إليها إلا عندما تصبح مميتة.

 

 

 

الاخبار العاجلة