العلامة

45 مشاهدة
admin
ترجمات
العلامة

مقدمة

يعد هذا الكتاب ثالث عمل في مسيرة أمبيرتو إيكو، الباحث السميائي والروائي الإيطالي الشهير، فقد نشر سنة 1962 كتابه الأول ” Opera Operta ” الذي ترجم إلى الفرنسية سنة 1965 تحت عنوان L’oeuvre ouverte ( العمل المفتوح)، ونشر بعد ذلك، أي سنة 1968 كتابه الثاني ” la struttura assenté ” الذي ترجم إلى الفرنسية سنة 1972 تحت عنوان structure absente    La       ( البنية الغائبة )، وهو كتاب اعتبر في حينه مساهمة نوعية في تحديد موضوع السميائيات وإبراز قدرتها على وصف كل الوقائع المنتمية إلى التجربة الإنسانية كيفما كانت مادة تجليها. وسينشر بعد ذلك كتابه الثالث الذي يحمل عنوان segno  سنة 1973، وهو الكتاب الذي نقدم ترجمته إلى العربية اعتمادا على الترجمة الفرنسية. ولقد ترجم هذا الكتاب أول مرة إلى الإنجليزية سنة 1980، ولم يترجم إلى الفرنسية إلا سنة 1988 وصدر عن منشورات Labor ببروكسيل، وأنجز الترجمة أحد الأسماء اللامعة في ميدان الدراسات السميائية في بلجيكا وهو جان ماري كلينكنبيرغ. وللتذكير فإن كلينكنبيرغ هذا هو أحد أبرز الأسماء المكونة ل”جماعة مو” البلجيكية، وتضم هذه الجماعة فريقا من الباحثين اشتهروا بدراساتهم في ميدان البلاغة، وهو بالإضافة إلى ذلك معروف كأحد أبرز الباحثين الفرنكوفونيين المتخصصين في ميدان الدراسات السميائية الخاصة بالحقول البصرية.

 

ولهذا الكتاب طابع خاص، فهو لا يقدم لنا تاريخا خاصا بالنظريات السميائية التي عرفتها الأزمنة المعاصرة، ولا يحدثنا عن المردودية التحليلية للمنهج السميائي – إن كان هناك حقا منهج سميائي-، ولا يحدثنا عن الأسماء الكبيرة التي صنعت مجد السميائيات الحديثة وشهرتها، وإنما يكتفي بتأمل تجربة إنسانية شاملة، يتأمل محاولات الإنسان المضنية من أجل التخلص من براثن طبيعة هوجاء لا ترحم لكي يحتمي بعالم ثقافي ( رمزي) يمنحه الدفء والطمأنينة ويوفر له التفاسير الممكنة للظواهر الطبيعية والاجتماعية على حد سواء. وبعبارة أخرى، إنه يبحث في التراث السلوكي والذهني الذي خلفه الإنسان عن الأسس الفلسفية التي تحدد كنه العلامة باعتبارها اللبنة الأساس في سيرورة السميوز ( السيرورة المنتجة للدلالات وتداولها).

ومن هذه الزاوية يمكن اعتبار هذا الكتاب تأريخا لرحلة الإنسان مع الرموز وأشكالها المتعددة، أو هو ، نتيجة لهذه الرحلة، تأريخ للرؤى الدينية والفلسفية التي رأت في الطبيعة رموزا تنوب عن قوى أخرى غير مرئية، أو ” هي الصوت الذي يحدثنا الله عبره عن قدرته ” كما هو شائع في كل الديانات السماوية المعروفة. ولهذا فإن التاريخ لا يحضر في هذا الكتاب باعتباره تسييجا لمحطات مرئية ومثبتة في التاريخ العام، بل يمثل أمامنا باعتباره كمَّا زمنيا نقيس من خلاله درجة نمو الأشكال الرمزية وتطورها وتعقيداتها المتصاعدة.

 

يفتتح الكتاب بمدخل يروي فيه أمبيرتو إيكو قصة مواطن إيطالي ( السيد سيغما) كان في زيارة إلى باريس، فبدأ يحس فجأة بألم في معدته. فقرر البحث عن طبيب يشخص له المرض ويمده بدواء يسكن آلامه. وفي رحلته هاته، كما يصفها إيكو بأسلوبه الممتع، نكتشف أن الإنسان، وليس السيد سيغما وحده، لا يمكن أن يخطو خطوة واحدة في الحياة دون الاستناد إلى أسنن تمكنه من فهم وتصنيف ما يحيط به، وتساعده على تحديد موقعه من نفسه ومن الآخرين. فالتسمية والتعرف والتمييز بين الأشياء والكائنات عمليات لا يمكن أن تتم إلا استنادا إلى نسق، صريح أو ضمني، هو الذي يمنح هذه الأحكام التصنيفية معناها، ف” العلامة توجد كلما استعمل الإنسان شيئا ما محل شيء آخر” كما يقول إيكو في هذا الكتاب نفسه. وتلك هي الأسس التي انبنى عليها المجتمع ذاته، فهذا المجتمع ” رهين في وجوده بوجود تجارة للعلامات”، فالمجتمع لا يمكن أن تقوم له قائمة إذا لم يخلق أسننه الخاصة التي يعتمدها الأفراد المنتمون إليه للتواصل فيما بينهم، وهي التي تسمح لهم بتبادل الدلالات واستهلاكها.

استنادا إلى هذا، فإن العلامة هي الشكل الرمزي الأمثل الذي يقوم بدور الوسيط بين الإنسان وعالمه الخارجي، وهي الأداة التي يستعملها في تنظيم تجربته بعيدا عن الإكراهات التي يفرضها الاحتكاك المباشر مع معطيات الطبيعة الخام. بل يمكن القول، استنادا إلى مثال إيكو نفسه، إن العلامة هي الأداة التي من خلالها تأنسن الإنسان وانفلت من ربقة الطبيعة ليلج عالم الثقافة الرحب الذي سيهبه طاقات تعبيرية هائلة.

فالإنسان كما يقول إيكو حيوان رمزي ( وهو تصور قال به إرنست كاسيرير منذ العشرينيات من القرن لماضي ) والرمزية ليست ميزة ” لغوية فحسب، بل تشمل ثقافة الإنسان كلها. فالمواقع والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية، والملابس هي أشكال رمزية أودعها الإنسان تجربته لتصبح قابلة للإبلاغ “. إنه كذلك لأن علاقته بالعالم الخارجي ليست علاقة مباشرة. فالإنسان لا يأتي إلى الكون ” مغمض العينين” و”خالي الذهن”، إنه يحتك بالطبيعة مسلحا بالمفاهيم، ومن خلالها فقط يستطيع الإمساك بالكائنات والأشياء والحالات، ليقوم بتصنيفها والحكم عليها. والمفهمة ذاتها هي أول وأرقى أشكال الترميز، أو هي حالة رمزية نستعيض بها عن الوجه المادي للوقائع. ولهذا السبب، فإن الثقافة ذاتها ارتبطت – حسب إيكو – بالفعل الإنساني الهادف إلى اشتقاق ما يؤثر في الطبيعة من خلال الطبيعة ذاتها : اكتشاف الأداة. والأداة هي انفصال الإنسان عن الموضوع، كما أن الرمز هو انفصال عن العالم وتمثل له خارج الإكراهات اللحظية كما يقول جان مولينو.

وعلى هذا الأساس، فإن التوسط السميائي هو الحالة الرمزية المثلى التي مكنت الإنسان من اكتشاف نفسه ووعيها خارج حدود التطابق الوجودي بينه وبين محيطه، وهو ما مكنه من الانفلات من الطبيعة بإيقاعها المكرور للولوج إلى الملكوت الحي الذي تقدمه الثقافة احتفاء به وتمييزا له عن الكائنات الأخرى.

ولقد قادت مغامرات الإنسان الأولى مع الرمز ووظائفه إلى تقديم تصورات موغلة في التطرف والمثالية عن تأويل حالة الترميز هاته، فقد أصبحت الطبيعة بأشيائها وكائناتها عند اللاهوتيين وبعض الفلاسفة علامات يحدثنا من خلالها الله عن ملكوت لا نرى منه سوى هذه الصور الرمزية المجسدة في الطبيعة كلها ( لقد كانت نظرية أفلاطون أول محاولة في هذا الاتجاه ). ” فمنذ “طبيعة” بودلير، تلك الغابة من الرموز( …) إلى الفكر الهايدغري، كان الهدف واحدا : ليس الإنسان هو من يصوغ اللغة من أجل السيطرة على الأشياء، بل الأشياء ( الطبيعة أو الكائن) هي التي تتبدى من خلال اللغة : إن اللغة هي صوت الكينونة، والحقيقة ليست شيئا آخر سوى الكشف عن الكينونة من خلال اللغة. وإذا كانت وجهة النظر هذه صحيحة، فلا مكان للسميائيات أو نظرية للعلامات” .

إلا أن الأمور ليست بهذه البساطة فنظرة من هذا النوع ستؤدي إلى نفي كلي للزمنية الإنسانية ذاتها مادام كل شيء معطى بشكل سابق على الممارسة الإنسانية. ذلك أن الأسنن الثقافية ( الأشكال الرمزية) لا تنمو خارج ملكوت الممارسة الإنسانية، فالعلامات هي إفراز للفعل المفرد والجماعي، وليست كما سلوكيا مودعا في ذاكرة الإنسان خارج تفاعله الحي  مع محيطه الطبيعي والإنساني.

ودليلنا في ذلك ما وقع  للسيد سيغما. فهذا المواطن العادي ” الذي واجه مشكلا عضويا وطبيعيا كـ ” ألم في البطن ” وجد نفسه فجأة منغمسا داخل شبكة من أنساق العلامات: بعضها مرتبط بإمكانية القيام بأفعال عملية، ويعود البعض الآخر مباشرة إلى مواقف نسميها ” إيديولوجية” بشكل مباشر. وفي جميع الحالات، فإن هذه الأنساق مجتمعة تعد رمزا أساسيا داخل التبادل الاجتماعي إلى الحد الذي يمكن أن نتساءل معه هل العلامات هي التي تسمح لهذا المواطن بالعيش داخل المجتمع، أم أن المجتمع الذي يعيش داخله هذا المواطن باعتباره كائنا إنسانيا ليس سوى نسق واسع ومركب من العلامات؟ وهل يعي سيغما بشكل عقلاني آلامه؟ هل كان من الممكن لسيغما التفكير في هذه الآلام وتصنيفها، لو لم يؤنْسنْه المجتمع والثقافة ويجعلا منه حيوانا قادرا على بلورة علامات وإبلاغها؟”.

وعل هذا الأساس، فإن ” السيرورة الإبلاغية التي لا تستند إلى أسنن والخالية من كل دلالة ستكون مجرد مثير-استجابة. فالمثيرات ليست كافية لمنح العلامة أبسط التعريفات، فهي في أحسن الحالات تختصر العلامة في ” شيء يوضع محل شيء آخر”. والحال أن المثير لا يعوض شيئا آخر ولا يحل محله، بل يثير هذا الشيء بشكل مباشر”. وهو ما يتنافى مع وضع العلامة ووظيفتها ودورها في تحويل الفعل من حالته الخام إلى حالة ثقافية تلغي ” ميتافيزيقا المرجع ” بتعبير إيكو، وتستعيض عنه بنسخة ثقافية مشتقة منه.

وهذا ما سيغير من نظرتنا إلى السميائيات ويدفعنا إلى إعادة النظر في بعض تعريفاتها. إن السميائيات ليست علما للعلامات كما شاع ذلك وانتشر، وكما تصور ذلك سوسير أيضا، إن العلامة المعزولة والمفصولة عن أي سياق لا يمكن أن تكون منطلقا صلبا لفهم المعاني التي ينتجها الإنسان عبر لغته وسلوكه وجسده وأشيائه. إن السميائيات، على العكس من ذلك، هي ذلك العلم الذي يهتم بتمفصل الدلالات وأشكال تداولها، أو هي العلم الذي يرصد تشكل الأنساق الدلالية ونمط إنتاجها وطرق اشتغالها.

وهذا ما حاولت فصول الكتاب الخمسة أن تجيب عنه : فالكتاب يحاول في مرحلة أولى وصف السيرورة المنتجة للعلامات والمحددة لنموها، لينتقل بعد ذلك إلى تحديد المعايير التي تصنف وفقها مجمل العلامات الموضوعة للتداول داخل مجتمع ما، ليقدم لنا في مرحلة ثالثة إسهامات البنيوية في تحديد نمط اشتغال الوقائع وطرق إنتاجها لدلالاتها، ليرصد في مرحلة رابعة نمط إنتاج العلامات وطرق تلقيها، لينتهي بفصل يحدد مجمل القضايا الفلسفية التي أثارتها السميائيات منذ القدم، والفصل عبارة عن سلسلة من التأملات الفلسفية في النشاط السميائي ذاته باعتباره حالة وعي معرفي رافق الإنسان منذ أن استشعر ضرورة التحكم في التجربة من خلال الكشف عن وحدتها في التنافر الحسي.

إن الأمر يتعلق في جميع الحالات بوصف السيرورة التي من خلالها تدل الكلمات والأشياء والوقائع الاجتماعية وتتحول إلى علامات ضمن أنساق ثقافية بعينها. فالتعرف على مضمون السيرورة والكشف عن حدودها وعناصرها أمران بالغا الأهمية. فلا يمكن فهم أي سلوك سميائي إذا لم نحدد في البداية طبيعة السيرورة التي توجد في أساس كل معنى. فالدلالة كما هو معروف لا تكترث للمادة الحاملة لها، فما هو أساس في السيموز ليس الكم الدلالي المدرج للتداول داخل الممارسة الإنسانية، بل العلاقات الممكنة بين عناصر كل واقعة.

وبناء عليه فالدلالة ليست كلا مكتفيا بذاته وليست معطى سابقا في الوجود على الممارسة الإنسانية، إن الدلالة هي سيرورة في المقام الأول، فالعناصر دالة لوجود علاقات فيما بينها، وهي مستويات في المقام الثاني لأنها محكومة في وجودها بالسياقات التي تخلقها هذه الممارسة.

استنادا إلى هذا، فإن “العلامة التي تستخدم من أجل نقل معلومات أو قول شيء أو الإشارة إلى شيء ما يعرفه شخص ما يريد أن يشاطره الآخر هذه المعرفة تعد جزءا من سيرورة إبلاغية “. إلا أن هذه السيرورة ذاتها لا يمكن أن تدرك إلا في حدود وجود تسنينات ثقافية تندرج ضمنها مجمل السيرورات الخاصة بالسلوك والوقائع والأشياء. فلا يمكن أن أفهم كلمة إذا كنت أجهل اللغة التي تنتمي إليها هذه الكلمة، ولا يمكن أن أستوعب المعطيات الحسية ( المتعدد الحدسي) التي تمثل أمامي إذا لم أكن قادرا على ردها إلى ” وحدة المفهوم”. ” فنحن ننظر إلى الأشياء والكائنات كما علمتنا الثقافة أن نفعل ذلك دائما” (1). إلا أن وصف وتصنيف هذه التجربة رهين بخروجها من دائرة ” الفعل الخام” لكي تصبح كيانات ثقافية، أي سلسلة من العلامات المندرجة ضمن أسنن هي عماد التواصل الاجتماعي وهي أساس بناء المجتمع ذاته.

وليس غريبا أن يشتد الخلاف بين كل الذين شُغلوا بحياة العلامة واشتغالها في شأن العناصر المكونة لهذه العلامة: هل تتكون العلامة من عنصرين ( دال ومدلول) ؟ أم تتكون من ثلاثة عناصر ( دال ومدلول ومرجع ) ؟ وما هي طبيعة كل عنصر على حدة ؟ وما موقع المعطيات الخارجية داخل العلامة ؟ وهل تعريف العلامة يستدعي المرجع كمكون من مكوناتها، أم أن المرجع لا علاقة له بوضع العلامة كعلامة ؟ تشكل هذه التساؤلات في واقع الأمر محاولة لتحديد كنه المعنى وتحديد علاقته بمصادره الأولى، أي أساسه المادي الذي منه تشتق كل الحالات الثقافية التي تغطي الوجود الإنساني.

ويتعلق في مرحلة ثانية بتصنيف العلامات. والتصنيف معناه تحديد ما يشكل فعلا علامة وما لا يمكن النظر إليه باعتباره كذلك. وبعبارة أخرى، إننا نروم من وراء التصنيف تحديد ما ينتمي إلى السميائيات وما يوجد خارجها، أي ما يشكل حقا علامات أي ما يشكل حالات ثقافية، وما يعتبر جزءا من السلوك العرضي البيولوجي أو الطبيعي المعطى خارج الذات وخارج ملكوتها الثقافي.

وبطبيعة الحال ستكون الإحالة في البداية على التمييز الكبير بين العلامات الطبيعية والعلامات الاصطناعية، أي بين ما ينتمي إلى نشاط عفوي خال من أية قصدية ” مثل البراقع على جسم الإنسان التي تمكن الطبيب من تشخيص بعض الاضطرابات الكبدية، أو صوت أقدام منذرة بقدوم شخص ما، أو الغيوم التي تعلن عن قرب هطول الأمطار الخ “. فما تقوله الطبيعة من خلال ظواهرها المتعددة لا يقصد منه تبليغ دلالة أو توصيل إرسالية ما. إن الطبيعة تعبر عن نفسها وعن حالاتها المتعددة بشكل عفوي، والإنسان وحده يمتلك القدرة على تحويل تلك الظواهر إلى خزان لدلالات لها علاقة بنمط عيشه ولها علاقة بالمناخ الذي يعيش وسطه. وبين ما يشكل علامات ” حقيقية” تعد جزءا من نشاط أُنتج بغاية محددة هي إنتاج الدلالات وخلق حالات للتواصل ( حالة اللسان والسلوك الإنساني والإيماءات والطقوس الاجتماعية ).

إلا أن هذا التمييز، رغم مركزيته، لا يستوعب مجمل الوقائع الإنسانية ولا يمكن أن يقودنا إلى التعرف على كل ممكنات السلوك الإنساني في مجال الإبلاغ والتواصل. فبالإضافة إلى أن هذا التمييز ذاته ليس نهائيا ولا قطعيا، فالظواهر الطبيعية بحصر المعنى ليست علامات إذا نظرنا إليها من زاوية القصدية، أي من زاوية المصدر المنبثقة عنه، إلا أنها كذلك من خلال موقعها داخل الفعل الإنساني وإنتاجه للدلالات، فالمعنى ليس محايثا للشيء، ولكنه الفائض الذي تفرزه الممارسة ويجعل الشيء جزءا من نسق ثقافي. وكما عبر عن ذلك شارل موريس فإن ” الشيء لن يكون علامة إلا إذا تم تأويله باعتباره علامة على شيء من لدن مؤول”، وتبعا لذلك ،” فإن السميائيات لا تهتم بدراسة نوع خاص من الموضوعات، بل تهتم بالموضوعات العادية في حدود اندراجها ضمن فعل تدليلي ( وفي هذه الحدود فقط )”. وهو ما يصدق على العلامات الاصطناعية ذاتها. فالنظر إلى متوالية صوتية باعتبارها حاملا لمضمون فكري، أو فهم فحوى سلوك ما باعتباره علامة، لا يمكن أن يتم إلا من خلال التعرف على اللسان الذي يتم داخله التأليف الصوتي، أو الانتماء إلى الثقافة التي تنتج داخلها هذه الوقائع السلوكية.

وعلى هذا الأساس، فإن التصنيف لا يقف عند هذه الحدود ولا يمكن أن يختصر فيما هو طبيعي عفوي. وفيما هو اصطناعي وليد قصدية صريحة، وكما يقول إيكو ف” التظاهر” بسلوك ما يصبح علامة رغم ظهوره بمظهر الطبيعي العفوي.

ولتوضيح  مجمل التصنيفات يقدم لنا إيكو مجموعة من المعايير التي تصنف بموجبها الوقائع باعتبارها علامات أو باعتبارها حوادث عرضية تنتهي بانتهاء الشروط التي أنتجتها. ولقد قام بذلك استنادا إلى سلسلة من التعريفات التي تزخر بها الأدبيات السميائية، منها ما ورد عند دعاة سميولوجيا الإبلاغ ( بيوسنس، بريتو، مونان بالأساس ) الذين رفضوا أن يتعاملوا مع ما تنتجه الطبيعة من ظواهر باعتبارها علامات، فالقصدية عندهم هي المعيار الأساس الذي تصنف على أساسه الظواهر باعتبارها علامات أو باعتبارها معطى بيولوجيا أو طبيعيا خاليا من أية دلالة. ومنها تلك التي ربطت العلامة بظواهر الاستنتاج المنطقي بحيث يُنظر إلى العلامة باعتبارها ” هي اللاحق الضمني للسابق الصريح” كما يقول ليفياتان أو هي ” الكائن الذي نستنتج  منه حضور أو وجود السالف والآتي لكائن ما” كما يقول وورف، أو هي :” القضية التي تتكون من رابط صحيح وكاشفة عن رابط سابق” كما تصور ذلك الرواقيون.

وعلى هذا الأساس، علينا، من أجل تصنيف العلامات، أن نأخذ في الحسبان ما يعود إلى مصدر العلامة ذاتها، وهو الذي قادنا إلى التمييز الذي أشرنا إليه سابقا بين معطيات الطبيعة اللاقصدية وبين ما ينتجه السلوك الإنساني بشكل قصدي.

ويجب أن نأخذ في الحسبان أيضا الخصوصية السميائية. فالشيء الوظيفي يتحول إلى دال يحيل على مدلول يتجاوز الوظيفة ليحيل على دلالات لها علاقة بالوضع الاجتماعي أو الثقافي لمستعمل هذا الشيء، فالمعطف كما يقول بارث يقي من البرد، ولكننا لا يمكن أن نفصله عن حالة طقسية معينة، كما لا يمكن أن نفصله عن الوضع الاجتماعي لصاحبه.

ويجب أن نأخذ في الحسبان ما يعود إلى درجة وعي الباث لقصديته. فكما أن الباث قد لا يعي بشكل كلي قصدية سلوكه، فإن المتلقي هو الآخر قد لا يؤول سلوكا ما باعتباره دالا على قصدية ما، والعكس صحيح أيضا. فقد أنقر على الطاولة بأصابعي بشكل عفوي ويتوهم المتلقي أنني ضجر وأريد منه أن ينصرف. وقد أنقر بأصابعي على الطاولة لأعبر عن ضجري من محدثي في حين لا يعي هو ذلك باعتباره دعوة إلى الانصراف، وينظر إليه باعتباره حركات عفوية بلا دلالة.

وعلى هذا الأساس، تعد درجة وعي الباث لقصديته ودرجة وعي المتلقي لهذه القصدية معيارا أساسا في تصنيف الظواهر والتعامل معها باعتبارها علامات أو باعتبارها سلوكا عفويا عرضيا ولا معنى له.

وقد يستند التصنيف إلى معيار مادية العلامة ذاتها، فالعلامة قد تستعمل جزءا من مرجعها باعتباره دالا. وفي هذا المجال يحيل إيكو على تصنيفات بورس الخاصة بالماثول حيث تتحول نوعية ما إلى علامة استنادا إلى مادة تكونها، ( قد ألوح لصديقي بعلبة سجائر لأعبر فقط عن رغبتي في سيجارة واحدة”.

ويشير إيكو أيضا إلى التعدد المضموني للمدلول الواحد. وفي هذا الإطار يستنتج إيكو إمكانية وجود تصنيفات تستند إلى قدرة المدلول على التخلص من دلالته الأولى لكي ينشر شبكته التدليلية في اتجاهات متعددة تغطي مجمل المناطق المشكلة للوجود الإنساني.

وإذا كان هناك من غاية من تحديد معايير التصنيف هذه، فإن الأمر يتجاوز حدود إعطاء صنافة عامة وشاملة للعلامات، بل يهدف إلى تبيان الطابع المركب والمتحرك والمتغير لوضع العلامات. فقد تشتغل هذه الواقعة باعتبارها علامة ضمن سياق بعينه، إلا أنها لن تكون كذلك في سياق آخر.

وليس غريبا أن ينتهي هذا الفصل أيضا ببسط لمقترحات بورس في ميدان تصنيف العلامات (سينتهي الفصل الخامس أيضا ببسط لتصور بورس للقضايا الفلسفية الخاصة بالعلامة ). فتصنيف بورس يعد من أكثر التصنيفات دقة وشمولية، فهو لا يكتفي بتقديم صنافة عامة ونهائية للعلامات، بل يشير في الآن نفسه إلى إمكان وجود سلسلة من التأليفات بين العلامات المختلفة، وكل تأليف ينتج عنه علامة تغطي منطقة من المعيش النفسي أو الاجتماعي أو السلوك العملي، أي ما يسميه بورس في كتاباته بالعادة التي نؤول وفقها الوقائع. فنحن نؤول دائما وفق غايات نفعية.

وبناء عليه، فإن هذا التصنيف هو في واقع الأمر إطلالة على أنماط إنتاج العلامات وأنماط اشتغالها، وهي القضايا التي سيخصص لها إيكو الفصل الرابع من هذا الكتاب. ففي هذا الفصل سيناقش بشكل مستفيض الطريقة التي تتجسد من خلالها العلامات في وقائع وتصبح كيانات دالة.

وفي هذا السياق يستحضر إيكو النموذج اللساني باعتباره أرقى النماذج وأكثرها شمولية وانسجاما من جهة، وباعتباره النسق الذي تتم من خلاله عملية تأويل كل الأنساق الأخرى، فاللسان هو أرقى الأنساق التواصلية كما يقول سوسير. ولقد كان استحضار هذا النموذج مرتبطا بالتساؤل عن قدرة هذا النموذج ( أو عجزه ) عن إضاءة نمط اشتغال العلامات غير اللسانية. وبعبارة أخرى هل يمكن إسقاط قوانين النموذج اللساني على أنساق من طبيعة أخرى. وفي هذا المجال يشير إيكو إلى محاولات دعاة سميولوجيا الإبلاغ الذين قدموا في الستينيات من القرن الماضي سلسلة من الدراسات الخاصة بأنساق التواصل كأرقام غرف الفنادق أو أرقام الحافلات أو اللوحات التوجيهية الخاصة بالقانون المنظم للسير. ولكن هذه الدراسات لم يكن لها أية مردودية في مجال المعرفة العلمية الخاصة بهذه الأنساق. فالموضوعات التي عالجتها موضوعات محدودة العدد والقيمة، وتتميز بالثبات وضحالة التأليف.

ولقد اتضح فيما بعد أن التطبيق الحرفي للنموذج اللساني لا يمكن أن يقود إلى معرفة مثلى لهذه الأنساق ولا يمكن أن يزودنا بمعرفة تتجاوز تلك التي نملكها بشكل عفوي عن هذه الأنساق. وبدل ذلك يجب القيام بشيء آخر . فعوض البحث عن النموذج اللساني في هذه الأنساق، يجب البحث عن خصوصية هذه الأنساق من خلال عناصر تكوينها ذاتها، أي البحث عما يجعل هذه الأنساق قادرة على خلق وحداتها التدليلية الخاصة بها. فأسطورة التمفصل المزدوج مثلا برهنت على قصورها في إدراك نمط وجود أنساق من قبيل العلامات الأيقونية مثلا. فصورة مسدس مثلا كما يقول بارث لا تقابلها على الإطلاق كلمة مسدس. إن ما يقابلها حقا هو ملفوظ تتحدد أبسط تحققاته من خلال العبارة التالية : ” هذا مسدس” .

وعلى هذا الأساس “يمكن التأكيد أن النظرية السميائية تتجاوز، باستعمالها لنمذجة من هذا النوع، النموذج اللساني. إن أنماط الإنتاج المدروسة هنا ليست في ذاتها لا لسانية ولا غير لسانية، فالفئات السميائية المستعملة هي التي تحدد الظواهر السميوزية المستخدمة في مختلف أنساق العلامات، وهي القادرة على كشف السيرورة اللسانية والسيرورات غير اللسانية”.

وسيقف إيكو في هذا الكتاب مطولا عند قضيتين هامتين : ما يعود إلى التراث البنيوي ودوره في تشكل السميولوجيا ( السميائيات ) كعلم مستقل بذاته، وهو تراث لساني في المقام الأول كما سنرى ذلك. وما يعود إلى القضايا الفلسفية الخاصة بتشكل العلامة ودورها في تحول الإنسان من مجرد حيوان يصارع من أجل البقاء، إلى كائن ” يبتكر تاريخه الخاص مبتعدا عن الأجناس الأخرى التي خلفها وراءه بلا تاريخ مستسلمة لآلية الطبيعة” على حد تعبير فراس السواح. (2)

فعلى الرغم من أن السميائيات عرفت النور ” ضمن سياقات فلسفية وعقدية بالغة التنوع والاختلاف” ، فإن البنيوية لعبت دورا حاسما في تحديد الأسس الأولى التي انبنت عليها السميائيات ( سنترك جانبا وضع بورس، فهو يشكل حالة فريدة، فتصوراته السميائية ولدت ونمت خارج التقليد اللساني الأوروبي الذي أرسى دعائمه سوسير). ولنتذكر في هذا المجال أن البدايات الأولى للسميولوجيا في أوروبا استمدت مفاهيمها الأولى من اللسانيات السوسيرية. فالسميولوجيا، على حد تعبير بارث، ما كان لها أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام دون الاستعانة بالمعرفة اللسانية. وهذا ما يتضح من خلال المفاهيم الرائجة في الدراسات السميائية. فالعلامة والبنية والدال والمدلول والمركب والاستبدال والسانكرونية والدياكرونية ومفهوم القيمة وكذا شكل المضمون والتحليل الدلالي المستند إلى التقابل بين السمات الدلالية ( المعانم) كلها مفاهيم مستقاة من اللسانيات البنيوية. بل إن طرق وصف الوقائع ذاتها مستوحى من الدراسات البنيوية.

وليس غريبا أن تتردد في الأدبيات السميائية مفاهيم من قبيل النسق والسنن والتماسك الداخلي للواقعة والشبكة العلائقية إلى غير ذلك من المفاهيم التي تحيل جميعها على طريقة في بناء الواقعة وطريقة في وصفها. وبطبيعة الحال، فإن البنية هي المفهوم المركزي في البنيوية ( وفي السميائيات أيضا) والبنية حسب إيكو هي : ” نموذج تمت بلورته استنادا إلى قواعد تبسيطية تسمح لنا باستيعاب مجموعة من الظواهر من جهة نظر معينة “. والتركيز على البنية هو الذي سيقود إيكو من جديد إلى تحديد مفهومي النسق والسنن، وهو تمييز بالغ الأهمية كما سنرى ذلك. فإذا كانت البنية هي المرادف للنسق ( لم يستعمل سوسير أبدا مفهوم البنية، لكنه أشار مرارا إلى أن اللسان نسق من العلامات) فإن السنن يحيل على شيء آخر، والخلط بينه وبين النسق مثلا قد يؤدي إلى كثير من الارتباك النظري والتطبيقي. فالنسق هو مجموعة من الاختلافات التي تقابل بين وحدات من نفس الطبيعة ومن نفس الوضع. وهذا ما يجعل من النسق كيانا يحتاج إلى وحدتين على الأقل لكي يوجد، مثال ذلك التقابل بين اللونين الأحمر والأخضر خارج كل السياقات الممكنة.

أما السنن فهو، على الرغم من ارتباطه بالنسق، من طبيعة مختلفة، إنه على خلاف النسق يقوم بالربط بين نسقين مختلفين : نسق المدلولات ونسق الدوال. ففي المثال السابق، يشير تقابل الدالين :  أحمر (م) أخضر إلى تقابل آخر على مستوى المدلولات في نسق القانون المنظم  للسير أي مرور ممنوع (م) مرور مسموح به (3). وقد يشير إلى تقابل آخر  في سياق آخر.” وهذا يعني أن النسق ينتظم وفق أسباب موضوعية ( التقابل بين / p/ و / b / يستند إلى أسباب نطقية، والتقابل بين /مرور / ولا مرور، يمكن أن يحكمه مقام ملموس يشتمل على اختيار الذات هذا الحل دون ذاك، كما وقع لموسى عندما وصل إلى ساحل البحر الأحمر). وبالمقابل، فإن السنن يتأسس بشكل اعتباطي ( حتى وإن كان هناك من يقول بأن هناك أسبابا موضوعية تعود إلى الإدراك أو إلى قابلية رد الفعل، تدفعنا إلى الربط بين الأحمر وبين المنع، وهي أسباب ستنهار إذا  وضعنا علما أحمر يرفرف على واجهة حزب يساري )”.

استنادا إلى هذه التمييزات ستتضح كل القضايا الخاصة بتحليل الوقائع وطريقة الإمساك بدلالاتها المتعددة. فالمعنى ليس مرئيا من خلال ما تقدمه العناصر المشكلة للوقائع، إن المعنى كيان مبني استنادا إلى أنساق. وبعبارة أخرى، لا يمكن للمعنى أن يصبح مرئيا وقابلا للإدراك إلا إذا تم الكشف عن النسق المولد له. فلا وجود لدلالة معطاة بشكل كلي وتام ونهائي قبل تدخل الذات القارئة التي تقوم بإعادة بناء القصديات الضمنية المتحكمة في العلاقات غير المرئية من خلال التجلي المباشر للنص.

وعلى هذا الأساس إذا كان حلم البنيوي في مرحلة من مراحل تطور الدراسات البنيوية هو الوصول إلى تحديد البنية التي تنتهي عندها كل المتناقضات ( تحديد ” سنن الأسنن” بتعبير إيكو)، أي الرغبة في الوصول إلى الإمساك ببنية تنصهر داخلها كل العناصر ضمن انسجام كلي ونهائي استنادا إلى عمليات التبسيط المتتالية ( المثال الذي يقدمه إيكو من أجل الربط بين بنية الإنسان وبنية شجرة ضمن نموذج مثالي يحيل على الإنسان وعلى الشجرة في الآن نفسه )، فإن السميائيات على العكس من ذلك، تسير في اتجاه معاكس. إنها تبحث عن دينامية البناء الدلالي للواقعة من خلال إدراجها ضمن ما يسميه أمبيرتو إيكو الموسوعة. والموسوعة، على خلاف البنية المعزولة والثابتة، متفتحة ومتجددة ولا يمكن وصفها وصفا كليا. إن الموسوعة بناء ثقافي يشتمل على كل عناصر المعرفة الخاصة بالإنسان ومحيطه، ولهذا السبب فهي في تبنين وتجدد دائمين.

وكل الأمثلة التي يقدمها إيكو تؤكد هذا المنحى، سواء تعلق الأمر بالطريقة التي تصف بها اللغة المعطيات المنتمية إلى العالم الحسي (التقطيع المفهومي لمعطيات الطبيعة ) أو تعلق الأمر بالوصف الخاص بالوحدات الدلالية المشكلة لما يسمى بشكل المضمون ( النموذج الأصلي الذي قدمه هالمسليف والنماذج اللاحقة : نموذج بوتيي ونموذج كريماص ونموذج كاتز وفودور )، أو ما يتعلق بالمستويات الدلالية التي تؤكد استحالة الإحالة الواحدة، وهو ما يفتح الواقعة الدلالية على الموسوعة التي تنتمي إليها، أو على الموسوعات التي تحدد أطرا ثقافية مغايرة ( مستوى التقرير باعتباره يعين الحد الأدنى الدلالي، ومستوى الإيحاء باعتباره يحيل على كل الممكنات الدلالية التي تشتمل عليها الواقعة بشكل ضمني أو صريح ).

وهذا ما يميز السميائيات عن البنيوية. فإدراج النص ( الواقعة ) ضمن الموسوعة معناه استعادة ذاكرة النص الخفية التي تشكل الأساس الذي تنبني عليه كل الوقائع التي تفرزها الممارسة الإنسانية. ذلك أن ” الموسوعة هي مسلمة سميائية، أي فرضية إبستمولوجية يجب أن تستثير الاكتشافات والتمثلات الجزئية والمحلية للكون الموسوعي.  ( …) ولا فرق داخلها بين المعرفة اللسانية ومعرفة العالم. ففي الحالتين معا يتعلق الأمر بمعرفة ثقافية يتم داخلها شرح كل واقعة استنادا إلى الوقائع الموسوعية”، ورغم طابعها الشمولي هذا فإنها ” لا تدرج ضمنها كل المعارف المخصوصة الممكنة التي يتوفر عليها فرد معزول، إنها تشتمل فقط على تلك التي تدرجها الثقافة ضمن الإرث المعرفي الجماعي”.

وعلى الأساس، فإن السميائيات لا تبحث في النص عن بنية دلالية كلية وثابتة ( من قبيل فكرة التناظر الدلالي التي قال بها كريماص، وهي فكرة لم تعد تقنع أحدا)، ولا تبحث عن معنى معطى ومكتف بذاته، إنها على العكس من ذلك تحاول الكشف عن السيرورات الممكنة داخل الواقعة. فالوقائع ليست سوى سيرورات ضمنية يعيد المحلل بناءها وفق فرضياته التأويلية المعلنة أو الضمنية. فلا شيء ثابت داخل هذه الوقائع، ولاشيء يحمل دلالاته في ذاته في انفصال عن السيرورة التي يولدها التلقي. وكما يعبر عن ذلك إيكو بطريقته الخاصة فإن” المحاور الدلالية في تبنين مستمر وفق المقامات، ولكن من الضروري أن توجد هذه المحاور من أجل إقامة صرح الدلالة. وعلى كل دراسة سميائية أن تنظم أكبر قدر من هذه التقابلات غير المتطابقة ظاهريا داخل نماذج بعينها، حيث تتخذ العلاقات شكل قواعد للتحويل أكثر عمومية. وفي حالات كثيرة، وفي مناطق شاسعة من الحقل الدلالي الشامل، سيكون ذلك ممكنا، بحيث سيكون في مقدورنا بناء حقول دلالية هامة وبالغة البنينة. إلا أن السميائيات لا تدعي لنفسها أمل عزل ووصف هذا النسق الدلالي الشامل. وإذا حصل أن تم هذا الوصف، فإن تلك الحركة الإبداعية الدائمة التي تستدعيها حياة السميوز ستتوقف”.

وسر ذلك نجده في تحديد فحوى المعنى ذاته، فالمعنى ليس جوهرا ولا مادة، إنه واقعة ثقافية، وككل الوقائع لا يمكن أن ينفلت من التحديد الثقافي المسبق، ” ذلك أن الثقافة تقوم بتجزيء المضمون وتثبت في وحدات ثقافية تلك الأجزاء الواسعة من المضمون الذي نطلق عليه الإيديولوجيا “.

وعلى هذا الأساس فإن السميائيات ( السيرورات السميوزية ) ارتبطت تاريخيا برغبة الإنسان في الإمساك بوحدة التجربة من خلال البحث عن القواعد الضمنية التي تحكم هذه التجربة وتجعلها كيانا قابلا للفهم والاستيعاب والتبادل. فالسلوك السميائي بدأ في التبلور حين أحس الإنسان تميزه وانفصاله التدريجي عن الكائنات الأخرى. وهذا ما يميز السلوك السميائي عن ردود الفعل الطبيعية. إن السلوك السميائي هو الحالات الثقافية التي تمنح الأشياء والأعضاء بعدا جديدا يحولها إلى شكل رمزي، أي وسيط بين الإنسان وإدراكه لعالمه الخارجي.

و” لهذه الأسباب، وأسباب أخرى، فإن السميائيات ليست نظرية فحسب، وإنما هي ممارسة دائمة. إنها كذلك لأن النسق الدلالي في تطور مستمر، وهي لا تستطيع وصفه إلا جزئيا استناد إلى وقائع إبلاغية ملموسة ومحددة. وهي كذلك أيضا لأن التحليل السميائي يغير من النسق الذي يولده. وهي كذلك، في الختام، لأن الممارسة الاجتماعية ذاتها لا تجد تعبيرها إلا في السيميوز. إن العلامات تشكل فعلا قوى اجتماعية، وليست فقط أدوات تعكس هذه القوى”.

تلك هي بعض القضايا التي يشتمل عليها الكتاب بشكل صريح أو ضمني، وقد حاولنا من خلال هذه المقدمة أن نلقي بعض الأضواء على الغايات التي تحكم هذا الكتاب، وهي غايات ليست مفصولة عن الأسس المعرفية التي يستند إليها المؤلف في صياغة فرضياته النظرية والتحليلية.

وتجدر الإشارة في الختام أن العنوان الأصلي للكتاب كما ورد في الترجمة الفرنسية هو :

Le signe

Histoire et analyse d’un concept

الاخبار العاجلة