سيرورات التأويل من الهرموسية إلى السميائيات

70 مشاهدة
admin
مؤلفات
سيرورات التأويل من الهرموسية إلى السميائيات

سعيد بنگراد

الدار العربية للعلوم ناشرون – بيروت 2011

 

الإهداء

إلى روح الصديق عبد العلي اليزمي في الذكرى الخامسة لرحيله

 

 شكر خاص

أتقدم بجزيل الشكر إلى الأصدقاء الأساتذة:

أحمد الفوحي، سعيدي المولودي،  جمال حيمر، محمود ميري ففضلهم على هذا الكتاب كبير

 

 مقدمة

 

يمكن القول بدءا إن الظواهر دالة من خلال موقعها الرمزي في الوعي الإنساني لا خارجه. لقد تعلمت هذه الظواهر، أو علمها الإنسان، قول أشياء أخرى غير ما يحيل عليه مظهرها المادي. وهي بداهة تشير إلى قوة الحضور الرمزي في تفاصيل الحياة الإنسانية. فنحن لا نقف أمام أشياء تصفها لغة تسمي وتعرض على العين ما تسمي ضمن دورة لا تتجاوز الإحالة على الموصوف في العام الخارجي؛ إننا، على العكس من ذلك، أمام تجربة إنسانية تصاغ في المعاني المضافة بعيدا عن إكراهات المحددات المرجعية. وهو ما يعني أن المرجعية ليست في ما تكشف عنه الأشياء التي نرى ونتأمل، بل مودعة في النماذج التي تتوسط ما هو متحقق لحظة انبثاقه من التسنين من حيث التسمية ( تعريف الشيء)، أو من حيث الانتماء إلى قسم بعينه ( الخطاطة الفيزيقية التي تحيل على صورة الشيء من خلال القسم الذي ينتمي إليه)، أو من حيث إحالاته الدلالية المضافة ( الاستعمالات الاستعارية).

وهذه المسلمة هي التي تدفعنا الآن، كما دفعت أسلافنا قديما، إلى النظر إلى التأويل باعتباره أداة تمكننا من التعرف على مناطق في ذواتنا وفي الطبيعة لا يمكن أن يستقيم وجودها من خلال حدود مألوفة. وهو ما يعني أن التأويل لا يشير إلى دلالات عرضية لا تلعب أي دور في التبادل الاجتماعي أو في حالات التواصل الفني. إنه، على العكس من ذلك، ضرورة فرضها التباعد الزمني وفرضتها الغربة الثقافية كما فرضتها الاستعمالات المتعددة للغة. إن المعاني متعددة، وتلك هي القاعدة، أما التعيين التقريري فلا يشكل سوى حالات استثنائية تحيل على أكثر المناطق فقرا في الوجود الإنساني. ولو لم يكن الأمر كذلك لما احتاج الإنسان إلى اختراع الرمز واكتشاف لغة شعرية تفتح الذات على ما هو أبعد مما يمكن أن تحيل عليه التجربة المشتركة.

إن الرمز على هذا الأساس هو أصل التأويل، إنه مرتبط بمتعة البحث عما يختفي وراء الظاهر للعيان، وهو كذلك أيضا لأنه أصل المعنى المزدوج الذي يجعله ريكور، كما سنرى ذلك في الفصل الرابع من هذا الكتاب، مدخلا أساسا “للفهم الحقيقي” للظواهر. فنحن لا نكترث للمعاني المرئية، بل نحتفي بما لا يقال بشكل مباشر، كما هو الأمر في الشعر وروح الأسطورة واللعب الحر بالأشكال والألوان. إن الأمر يتعلق بما تأتي به التمثيلات الرمزية التي وحدها يمكن أن توسع من دائرة المعيش اليومي وتضمنه متعة هي جوهر الإنسان وهو ما يشكل قيمته الحقيقة.

لذلك ينطلق التأويل من ضرورة النظر إلى وقائع الوجود كلها باعتبارها حاصل سيرورات ترميزية تحتاج إلى تفكيك لكي تسلم مضمونها الحقيقي. إنه يعد، من خلال ذلك، جوابا عن أسئلة وجودية هي التي قادت إلى إعادة قراءة الموروث الإنساني وتأويله وفق إكراهات الزمن الذي يتمفصل في وحدات ثقافية تلغي المتصل وتعوضه بحالات أخرى، بعضها واقعي وأغلبها افتراضي يسكن الاستيهامات وعوالم التخييل. وهذه الحالات هي صيغة من الصيغ التي تتم من خلالها استعادة معنى قديم غيبته مسافات زمنية موغلة في تاريخ لا نعرف عنه إلا الشيء القليل. وهو ما قد يوحي بأن المعرفة الحقيقية لا تكمن في ما تقوله الأشكال الظاهرة، ولا في ما قيل بشكل مباشر، بل فيما لم يقل، أو فيما تغطيه الرموز وتخفيه. قد يكون الأمر خاصا “بمعرفة سرية” لا يمكن الوصول إليها إلا إذا تمت إزالة الستائر التي تحجبها عنا، ذلك أن حالات التشخيص ليست في غالب الأحيان سوى ممر نحو ما يمكن أن يختصره المفهوم في صيغة تجريدية تقلص من رحابة الوجود.

وتلك طبيعة الرمز وذاك موقعه ضمن الممارسة الإنسانية. فمع أن أشياء العالم وحالاته تبدو أكثر حضورا في الوجود من الحالات التي يغطيها الرمز، فإن عوالم الترميز أرحب وأوسع مدى من عوالم “المعطى المحسوس”. إن هذه العوالم لا تكتفي، داخل هذا التمثيل، بصياغة صور مجردة تعد مقابلا رمزيا لحالات فعلية؛ إنها تقوم بأكثر من ذلك، إنها تبني عوالم هي من صلب المخيال الإنساني وقدرته على خلق عوالم متحررة من المقاصد “الموضوعية”. إن التوسط الذي تقوم به حالات الاستعمال الاستعاري للأشياء والكائنات يقود إلى الفصل بين الدال – أداة التمثيل الأولى – وبين مدلول يبدو قريبا جدا من الذهن، وهو الغاية النهائية من أي تمثيل، إلا أنه يتراجع باستمرار إلى مواقع خلفية تمتنع عن الإشباع المطلق الذي قد توحي به عمليات التمثيل المتتالية.

بعبارة أخرى، لا يقوم التمثيل سوى بمد هوة سحيقة بين الرغبة في التسمية المباشرة وبين حالة “تأجيل” ( بتعبير دريدا) تحجب هذه الرغبة وتواريها. وهذا التأجيل هو وحده المسؤول عن الإحالات الدلالية التي تعد تعبيرا عن السياقات المتنوعة والمضمرة، أو هي التعبير الأسمى عن قدرة اللغة على الاستقلال بذاتها لخلق مرجعيات دلالية ذاتية تعد الوجه الأمثل لعوالم ثقافية هي مزيج عجيب من “الحقائق الموضوعية” و”الحالات الاستيهامية” التي لا تحكمها ضفاف ولا نهاية. يتعلق الأمر بسر آخر من أسرار اللغة، “فالكلمات أطول عمرا من الأشياء والمؤسسات والمعارف التي تحيل عليها وتتسلل عبرها إلى التجارب القديمة لتمدها بما يضمن وجودها رغما عنا”(1). ومن خلال هذا الفصل المتزايد تتحدد طبيعة التأويل، ومن خلاله أيضا تختلف أنماط النظر إليه. هناك رؤى مختلفة في التعاطي مع التأويل وفي تقدير حجمه وتقدير المساحات التي يمكن أن يمتد إليها. وهو ما سنحاول عرضه في فصول هذا الكتاب.

وتلك هي منطلقات التدليل الأولى التي يمكن الاستناد إليها من أجل القيام بتنويع للمعاني والذهاب بها في كل الاتجاهات: حالة أولى للتعيين المباشر، وحالات تدليل لا متناه إن لم تجلب مدلولا كليا، فإنها ستأتي بلذة تتحقق من خلال استعراض كل المدلولات الممكنة. وهي طريقة أخرى للقول إننا نخلق، من خلال هذا التمثيل وداخله، سياقات جديدة يحتل داخلها “الشيء” موقعا لا رابط بينه وبين موقعه داخل سياقه الأصلي. وهذا فيما يبدو هو مبرر التأويل وأساسه، بل هو ما يجعل التأويل حاجة من الحاجات الإنسانية الأساسية. إن النفعي عام ومشترك ومكرور، أما المتعة فمتعددة في المظاهر والوجود؛ للنفعي سلطة على المباشر والمرئي والظاهر، وللمتعة إغراء الخفي والمستتر والملتبس والغامض.

ولكنه هو أيضا ما يفصل بين التأويل بحصر المعنى وبين ما يصنف ضمن الاستعمال (2). إن التأويل كشف عن طاقة دلالية داخلية مهدها عناصر النسق التعبيري ذاته، أما الاستعمال الحر فهو إثارة للمخيلة، أو هو قراءة مرتبطة باستراتيجية أخرى – إيديولوجية، سياسية، دينية – لا علاقة لها بالمقاصد التي يمكن أن تشتمل عليها الوقائع. يرتبط الاستعمال بمصلحة خارجية، تدخل ضمنها كل القراءات التي تحيل على “قاعدة للفعل”، كما هو الشأن مع النصوص الدينية، أو ما تقتضيه نصوص تعتمد أطروحة قبلية لبناء عوالمها. أما التأويل فهو، على العكس من ذلك، حاجة داخلية منبعثة من الوقائع ذاتها، وكل مدلول يتم انتقاؤه ليس سوى شحنة انفعالية يمكن استبدالها بشحنة أخرى ستأتي بها سيرورات تأويلية لاحقة.

وهذه الحاجة الداخلية هي مصدر الإحالات المتتالية التي تتحدث عنها السميائيات التأويلية، في تصور بورس على الأقل، فاستنادا إلى عملية التمثيل الأولى (ماثول يحيل على موضوع عبر مؤول) يمكن توليد عدد لا متناه من الدلالات. ذلك أن الواقعة، بمجرد ما تدخل عالم اللسان ( الوجود الرمزي)، لن يكون معناها الأول سوى حلقة بدئية داخل تسلسل دلالي قد لا يتوقف عند حد بعينه. وهذا له ما يبرره في الوجود الإنساني ذاته. فبإمكاننا إقامة روابط بين كل مناطق هذا الوجود استنادا إلى التسلسل العلائقي القائم على الربط المتتالي بين كل العناصر التي تسكنها الانفعالات الإنسانية، وهي الفكرة التي يدرجها بورس ضمن مبدأ “الامتداد” ( كل ما في الوجود يشكل وحدة، ويشير في الوقت ذاته إلى هشاشة الفكر ونقصانه). ولهذا السبب، فإن هذا الربط لا يكترث – مبدئيا أو نظريا – لطبيعة المعرفة التي قد تتوقف عندها الإحالات. إن هذه الإحالات لا تراكم مدلولات، إنها تسعى إلى توسيع المسافة الرابطة بين أداة التمثيل وموضوعه.

ومع ذلك، فإن هذه المسلمات ( أو نعتقد أنها كذلك إلى حين ) لم تقد إلى النتائج نفسها. ذلك أن الاعتراف الصريح بالطبيعة المفتوحة لحالات التمثيل الدلالي لا ينطلق بالضرورة، كما سنرى ذلك في فصول هذا الكتاب، من الأسس نفسها ولا يروم الغايات نفسها. وهو ما يمكن إدراكه في ما يميز بين الهرموسيات (herméneutique) (3) عن بعضها البعض، في النشأة والتحليل والموضوع، وفي تعريفها للنص وتقديرها لمعانيه، وما يميزها مجتمعة عن “تفسير” البنيوية و”تأويلية” السميائيات. قد يكون النص في جميع هذه التصورات التأويلية، تلك التي عرضناها في هذا الكتاب، وتلك التي سنشير إليها بشكل مقتضب في هذه المقدمة، “حالة مفترضة” لا تتحقق إلا ضمن فعل تأويلي يمتلك القدرة على تجسيد كل مدلولاتها أو بعضها ضمن سياقات تتناسل فيما بينها، وهذه فرضية لها ما يسندها على مستوى الأشكال المتنوعة التي يتم من خلاها تلقي النصوص و”فهمها”؛ ومع ذلك، فإن حجم هذا الانفتاح ومداه هو أصل الاختلاف .

قد تقود هذه الطبيعة الافتراضية إلى تدمير شامل لكل المقاصد عدا قصد المؤول، وهو ما يقود إلى تدمير النص ذاته. حينها لن يكون هناك سوى تسلسل لا متناه من العلامات التي تحيل على بعضها البعض ضمن نسق أو أنساق تفسر نفسها بنفسها دونما اعتبار لما يوجد خارجها. وأمر ذلك بين في نمط الوجود ذاته، فنحن نفكر بالعلامات وداخلها، ولا يشكل الموضوع الخارجي سوى مثير عرضي يغذي العلامة ويمدها بعناصر التمثيل، ولكنه لا يمكن أن يحل محلها ولن يعيش إلا داخلها. وفي جميع الحالات، فإن اللغة ليست بديلا للمنافذ الحسية، ولكنها هي البؤرة التي تتجسد وتُعقل من خلالها.

وهناك ما يبرر هذا الترابط اللامتناهي بين العلامات، فالمعرفة في نهاية الأمر، هي بناء رمزي يقوم به الذهن وليست امتلاكا فعليا لواقع ممتد إلى ما لانهاية. لذلك، فإن ما “يقلق الإنسان هو التصورات التي يملكها عن الأشياء لا الأشياء ذاتها”(4). فلا رجاء إذن في توقف ممكن للإحالات، ولا أمل في رؤية العلامة وهي تتشبع ذاتيا وتستقر ضمن “حضور” نهائي، ولا وجود لقصد يوجه العلامات نحو غاية دلالية بعينها، “فما يطلق العنان للدلالة هو نفسه ما يجعل توقفها أمرا مستحيلا. إن الشيء ذاته علامة” (5). وباعتباره كذلك، فإنه لا يُربط بشيء آخر، بل يُستوعب ضمن الرمز الدال عليه.

وفي جميع الحالات، فإن ما قامت الآلة التأويلية ضده ضمن هذا التصور – والمقصود هنا التفكيكية كما صاغ حدودها النظرية والتطبيقية الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا – هو فكرة المركز، أو ما نطلق عليه، من زاوية أخرى، الكم الدلالي المفترض الذي تقود إليه كل العناصر المتحققة من خلال رحلة تقليصية تعود بالعالم المفصل إلى حالة تجريدية قصوى تمثل المضمون الدلالي الكلي. إن النص لا مركز له، وهو ما يعني بعبارة أخرى، ألا جدوى من البحث عن حقيقة أو أصل أو بداية، أو استعادة ما ضاع من خلال التمثيل، مادام كل شيء يتم داخل العلامات ويندثر داخلها. حينها يتحول النص إلى مجموعة من الدوال التائهة المتملصة باستمرار من مدلولاتها ضمن لعبة تأجيل أبدية لا يمكن أن تقود إلى نهاية بعينها.

وقد يتعلق الأمر بما يسميه إيكو “التوالد السرطاني للدلالة”( 6)، حيث تُحيل العلامات على بعضها البعض دون غاية أو هدف. فلا رابط بين نقطة البداية ونقطة النهاية، إن كانت هناك أصلا نهاية. وإذا حدث أن توقفت العلامة عند نقطة بعينها، فسيكون كل ما عرفناه عن نقطة البداية قد تلاشى واندثر ضمن دوامة لا متناهية من الإحالات؛ إذ لا غاية لهذه الرحلة اللولبية للعلامات والأشياء سوى اللذة ذاتها (7)، “وسيفتح غياب المدلول النهائي المجال واسعا أمام اللعبة اللانهائية للدلالة”(8). فلا جدوى إذن من الحديث عن سياق موجه للدلالات، ذلك أن السياقات ذاتها غير محدودة.

وعلى الرغم مما تبدو عليه الأشياء في الظاهر، لا علاقة للمفاهيم التي روجت لها جماليات التلقي من قبيل “البياض” أو “النقص” أو “اللاتحديد” بمفهومي “التأجيل” أو “الإرجاء” اللذين تتحدث عنهما التفكيكية. ترتبط المفاهيم الأولى بتقابل ثنائي يفصل بين الإدراك والتمثل. وهو فاصل مركزي في معالجة الذهن لما يأتيه من خارجه. يتم النشاط الإدراكي ضمن إكراهات حضور فعلي لشيء ما يقلص من إمكانات الاستيعاب الحر لكل مكوناته بسبب ارتباطه بنسخة فعلية لا تستطيع العين فكاكا منها. أما الثاني فمتحرر من كل الإكراهات سوى إكراهات الذاكرة والمخيال وقدرتهما على ربط الشيء بعوالم مفتوحة على كل الاحتمالات. بل إن الشيء ذاته قد يصبح، في هذه الحالة، وعاء لانفعالات وقيم إنسانية شتى. ومثال الجبل الذي يقدمه إيزر  Iser مشهور في هذا لمجال، وهو مثال مستعار من دراسة لجلبير رايل حول عمل المخيلة ( الفرق بين رؤية جبل هيلفلين وبين تمثله ) (9).

ولهذا السبب، فإن القارئ، في تصورات جماليات التلقي يقوم بدور مناقض لما يقوم به القارئ التفكيكي، إن الثاني يدمر ويقوض، أما الأول فيعيد إلى النص ما تم إهماله في حالات التحقق من خلال تنشيط ذاكرة النص والدفع به إلى تسليم كل مفاتيحه. وذاك مبدأ من المبادئ التي استند إليها ريكور من أجل تحديد معنى النص ونمط اشتغاله. إن النص، في تصوره، ليس كما دلاليا فحسب، إنه بالإضافة إلى ذلك، رابط جديد بين الإنسان وعالمه ( الفصل الرابع).

إن “الفراغ” الذي يتحدث عنه دريدا – إن جازت تسميته كذلك – ينشأ عن شيء آخر. إن الأمر لا يتعلق في واقع الأمر بفراغ، نحن أمام هوة سحيقة لا تني تتسع بين الدال والمدلول. وهي هوة لا يمكن أبدا ملؤها لأنها تعبر عن ” قصور أصلي” في اللغة وفي عمليات التمثيل التي تقوم بها. فبما أن كل شيء يتم داخل اللغة وفي انفصال عن المراجع الممكنة، فإن الوصول إلى مدلول نهائي سيظل حلما قد لا يتحقق إلا في النصوص التي خرجت من الزمنية الإنسانية ووضعت نفسها خارج إكراهاتها. إن لعبة الدوال الأبدية ستظل كذلك لاستحالة الوصول في يوم ما إلى حقيقة ما.

إن الأمر شبيه بالطقوس الهرمسية الاستئناسية ( نسبة إلى هرمس الإله الذي يشير إلى مبدأ التناقض الدائم)، “فكل شيء في هذه الطقوس يخفي سرا. لذلك، فإن السر الهرمسي لا يمكن أن يكون سوى سر فارغ، والذي يزعم أنه قادر على الكشف عن هذا السر لم يأخذ بعد حظه الكافي من الاستئناس، ولم يتجاوز حدود المعرفة السطحية للسر الكوني” (10). يجب البحث إذن عن المدلول النهائي في مكان آخر غير ما تقوله الإحالات المتتالية. وهذا المكان هو بالضبط ما لا يمكن تحديد كنهه، لأنه يفترض الاستقرار على معنى نهائي.

وضدا على هذا التصور، وفي الاتجاه المعاكس له، قامت الهرموسيات المتنوعة، بدءا من شلايرماخر وانتهاء بغادامير وريكور، رغم كل ما يميزها عن بعضها البعض،كما عرضنا ذلك في الفصول الأربعة الأولى من هذا الكتاب، وهو أيضا ما ستتجنبه السميائيات التأويلية وترفضه، كما سنبين ذلك في الفصل السادس.

لذلك قد يشكل هذا الإرجاء المطلق للمدلول النهائي المقصي من لعبة الإحالات نقطة البدء والنهاية في تصور آخر. وهو التصور الذي يفترض وجود بؤرة دلالية كلية تلتقي عندها كل المعاني الصغرى (التناظرات الفرعية بلغة الدلالة البنيوية). وهذه البؤرة هي التي تشكل الدلالة النهائية للواقعة. وينحصر عمل القارئ في هذه الحالة في “البحث” عن هذا الكم الدلالي المفترض من خلال إعادة بناء القصد الأول الذي يشكل مصدر هذا “الكم” وشكل تحققه. وذلك ما توحي به الأعمال المنتمية إلى السميائيات السردية في مراحلها الأولى( مدرسة باريس)، وكذا جزء كبير من الدراسات البنيوية التي كانت تحلم بالوصول إلى الإمساك بالسنن الأخير، ذاك الذي تنتهي عنده كل الأسنن، أي الوصول في نهاية الأمر إلى “التعرف” على “معنى كلي” هو النهاية والنقطة القصوى ضمن سلسلة التبسيطات التي يقوم بها المحلل في رحلته التأويلية من الوجوه الملموسة إلى بؤرة التجريد الأولى.

لذلك، لا مجال للحديث عن غاية تأويلية محددة في فعل التأويل ذاته، ما دامت القراءة تتعامل مع الممكنات التي يوفرها النص باعتبارها مضمونا مودعا هناك بشكل قصدي وسابقا على وجود القارئ. إن هذا القارئ لا يقوم سوى بتتبع ما يمكن أن تقوله الوحدات في ترابطاتها الممكنة داخل النص، ذلك أن الانسجام هو وليد تناظر كلي يعد ضمانة على قراءة وحيدة للنص (11). وهذا ما فصلنا القول فيه في الفصل الخامس.

وهذا الكم الدلالي هو ما كانت تبحث عنه الهرموسية، في صيغتها الأولى على الأقل (شلايرماخر). إن الغاية من التأويل في هذا التصور، هي الوصول إلى الدلالة الأصلية للعمل الفني، وذلك من خلال إعادة بناء الشروط المقامية التي أنتج النص ضمنها. إن التلقي المؤجل، وهو ميزة التواصل الأدبي عامة، يولد إحساسا بأن هناك شيئا ما ضاع أو استلب أو اختفي ويجب البحث عنه واستعادته، ولن يكون السبيل إلى ذلك سوى المعرفة التاريخية بمفهومها الواسع، أي بأحداثها ووقائعها ورموزها واستعاراتها وطبيعة العلاقات الإنسانية السائدة في مرحلة من المراحل. إن التعرف على هذه المكونات مجتمعة هو الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من استعادة المعنى “الحقيقي” للعمل الفني. بعبارة أخرى، إن الفهم يشترط استحضار كل ما له علاقة بلحظة الإبداع الأولى.

وهو ما يعني التقمص الكلي لذات الآخر المبدع، ذلك أن الفهم مرتبط بفكرة مركزية هي الربط الوثيق بين الذات التي تؤول وبين موضوع تأويلها. بعبارة أخرى، يتعلق الأمر ببلورة وعي تاريخي قادر على استعادة “الحدث الماضي”، كما تم فعلا في ذلك الزمن البعيد. ففي كل عملية فهم، وهي المسار الطبيعي نحو إطلاق العنان لسيرورات التأويل التي ستقود إلى التعرف على المعرفة الحقيقية، يجب استحضار قوانين النص ومقاماته، واستحضار خصائص السياق وخصائص الموسوعة ( مجمل المعارف البعيدة والقريبة التي يمكن أن يحيل عليها النص بشكل مباشر أو غير مباشر).

وهذا هو السبيل، في تصور شلايرماخر ( الفصل الثاني)، إلى الإحاطة بالدلالة الأصلية للعمل، أي “الكشف” عما  أراد المبدع التعبير عنه. ذلك أن العمل الفني مرتبط بلحظة محددة في التاريخ، ولا يمكن فهمه وتحديد دلالته الحقيقية دون التعرف على هذه اللحظة. ويُشترط للوصول إليها وتحديد خصائصها القدرة على الإمساك بمستويات معينة للتجلي. إن العمل الفني يخفي دلالاته، أو يدفعه الزمن إلى ذلك والأمر سيان، في طبقات يجب تحديد سمكها وامتداداتها.

استنادا إلى كل ذلك، فإن التأويل يقتضي الانطلاق من معطى مباشر قابل للوصف اعتمادا على العناصر المرئية للعلامة، للانتقال إلى معنى ثان ( دلالة ثانوية ) يستدعي تعبئة معرفة تشترط إعادة تنظيم العمل استنادا إلى علاقات جديدة مبنية وفق ما يستدعيه الاستعمال الاستعاري للكائنات والأشياء، وذلك من أجل الوصول إلى تحديد المضمون الأصلي للعمل الفني. بعبارة أخرى، تشكل الدلالة الجوهرية مبتغى وغاية كل تأويل. إنها تعد، في واقع الأمر، المضمون النهائي، ذلك المعنى الذي يجب أن يهتدي إليه المؤول وتتوقف عنده كل الإحالات.

وتلك أيضا خاصية من خاصيات تأويل النصوص الدينية؛ إن التأويل فيها “موجه”، لأنه مقيد بغايات موجودة خارج النص، وهي ما تحددها المقاصد الفقهية وغيرها. ومن ثمة، فإنه، عوض أن يقود إلى تفجير طاقات النص وتحويلها إلى ركام من العلامات المتنافرة، كما كانت تدعو إلى ذلك التفكيكية، يقود في حالة الهرموسية الدينية، على العكس من ذلك، إلى “الكشف” عن معنى مستتر لا تراه العين المجردة، ولكنه موجود في ثنايا هذه النصوص، تماما كما تُخبَأ الأسرار في الأساطير والخرافات والحكايات المجازية ( الدينية وغير الدينية).

وهو التصور الذي صنفه غادامير ضمن عبثية لا طائل من ورائها، ذلك أننا لا يمكن أبدا استعادة ماض ولى إلى الأبد، فما سنقوم باستعادته حقا ليست حياة فعلية، بل حياة صيغت ضمن لغة، أي ضمن ثقافة بعينها، وبذلك فهي ليست أصلية، إنها تحيل على وجود ثان. والحاصل أننا نقوم، من خلال الفعل الهرموسي، على العكس من ذلك، بوصل الحاضر بالماضي، إن “الفهم هو التعبير الأسمى عن علاقتنا بالماضي” في تصوره (الفصل الثالث). وهي الفكرة ذاتها التي سيعبر عنها ريكور بطريقته الخاصة. إن التأويل عنده “امتلاك”، وفحوى الامتلاك أن الذات التي تؤول لا تكتفي برصد معنى موجود في النص، بل تحاول، من خلال ذلك، فهم نفسها، أو تعمق من فهمها لنفسها” ( الفصل الرابع).

وقد تدفع هذه الطبيعة الافتراضية إلى الاستغناء عن قصد المؤلف لتحتمي بقصد القارئ باعتباره المدخل الأساس إلى تحيين المضمر والمؤجل والمسكوت عنه، إلا أنها لا يمكن أن تتنكر لما تقوله الوقائع استنادا إلى سياقها الأول، أو تتخلص من الإكراهات الأولية لقصد نابع من “توجيهات مسبقة” تبرمج، من خلال أدوات التمثيل نفسها ( اللغة وعناصر الصورة أو اللوحة )، صيغة أو صيغا للتلقي. إن التأويل، في هذه الحالة، لا يغير من طبيعة الكلمات والأشياء، كما لا يحذف أو يضيف أو يعدل، إنه يكتفي بالتصرف في نظامها وعلاقاتها.

بعبارة أخرى، إنه يقوم ببناء مقاصد جديدة ليست معطاة من خلال الوجه المرئي للوقائع. إن النص لا يشير إلى مسبقات دلالية، ولا يحتوي على معان كلية ونهائية، ولكنه يعد بؤرة لسياقات مضمرة تتحقق ضمن السيرورات التأويلية المتتالية. لذلك لا يمكن الفصل بين المعنى وبين السبل المؤدية إليه، أو الفصل بين السيرورة والتكون، وبين الشكل والمادة. فما ينظم ويرتب ويكشف عن العلاقات هو ما يعني وينتج الدلالات أيضا.

تلكم هي الأسس أو المبادئ التي انطلقت منها السميائيات ( في صيغتها البورسية على الأقل، الفصل السادس) من أجل بلورة تصور ثالث للتأويل يستمتع بلذة الإحالات، ولكنه لا “يفكك إلى مالا نهاية”؛ ويستشعر الحاجة إلى التوقف في لحظة ما عند مدلول منتقى وفق فرضيات سابقة للقراءة، ولكنه يشكك في وجود مدلول نهائي يعد عمق العمل الفني ودلالته النهائية. إن العلامة، في حالات التأويل المفتوح، لا تفقد صلتها بالمعرفة المشكلة للقصد الأول، ولكنها لا تدعي الوصول إلى أصل جديد هو “سدرة المنتهى” والنهاية التي ما بعدها نهاية.

وهذا أمر بالغ الأهمية، فالسميائيات التأويلية تشير إلى دينامية ( بورس يسمي المؤول الثاني مؤولا ديناميا) مستمدة من الترابطات الممكنة بين العناصر الثقافية المشكلة للموسوعة، بما في ذلك العناصر الثقافية المنتمية إلى سياقات غريبة ( غريبة عن السقف الثقافي الذي أنتج ضمنه العمل الفني ). هناك اعتراف صريح بوجود إرث إنساني مشترك مودع في رموز تكاد تكون كونية، إلا أنها تختلف من حيث التحققات وأشكال التجلي، وهناك في المقابل اعتراف بأن أشكال التحقق تقلص من حجم الموسوعة وتُخصِصُها. فالمؤول لا يؤول ما بنفسه، ولكنه يؤول ما تبيحه الموسوعة أو ترفضه. لذلك، فإن العلامة قد تحيل على مجموعة كبيرة من الدلالات، ولكنها لا تحيل على كل الدلالات إلا من باب العبث (12).

وعلى هذا الأساس، فالسميائيات التأويلية تدمر المدلول النهائي، لأنها تفترض تطورا لولبيا يسير دائما في اتجاه متصاعد، ولكنها تستند أيضا إلى مبدأ النفعية الذي يمنح النص الفني وضعا خاصا يقتات من الرمزي، ولكنه يجنح إلى الاستقرار على مدلول ضمن انتقاء بعينه. إن الواقعة الفنية في جميع الحالات هي بناء وليست معطى كليا بلا ضوابط. لذلك، فإن كل بناء هو تقليص لدائرة الترابطات الدلالية وحصرها ضمن ما يمكن أن يخلق انسجام الواقعة واشتغالها باعتبارها كيانا مستقلا، دون أن يربطها مع ذلك بمدلول وحيد يختصر كل شيء.

والخلاصة أن ما هو ثابت في كل التصورات التي عرضناها في هذا الكتاب، هو أن التأويل لا يشكل فائضا في المعنى، ولا يشير إلى دلالة عرضية يمكن الاستغناء عنها، إنه، على العكس من ذلك، إضافة دلالية هامة مخبأة في المرئي والظاهر، أو هو مضامين بلورتها الممارسة الواعية في غفلة منا، أو هو محاولة للبحث عن أصل ضاع، قد يكون نسيه عقلنا، إلا أن الممارسة الفنية قادرة على استعادته من خلال صور مبهمة وغامضة يجب تفكيكها لمعرفة بعض أسرارها.

وفي جميع الحالات، فإن ضوابط التأويل وحدوده ومعاييره لا يمكن البحث عنها خارج التصورات التي نملكها عن المعرفة والحقيقة والأحادية والتعدد. لذلك، “من الصعب جدا التأكد من صحة تأويل ما، ولكن من السهل جدا التعرف على التأويل الرديء” (13). ورداءة كل تأويل مرتبطة في غالب الأحيان بالتستر وراء الرغبة في التأويل من أجل استعمال نصوص لغايات سياسية وإيديولوجية، كما هو سائد الآن عند الحركات الإسلامية التي تنطلق كلها من المصدر نفسه : القرآن والسنة، ولكنها تضع التأويل في خدمة استراتيجية سياسية، لا في خدمة النص، أي في خدمة الحقيقة.

وحاولنا أيضا من خلال هذا العرض المفصل لفت الانتباه إلى أن النقد ليس وصفا خارجيا لمكونات نص، كما هو الحال مع مجموعة كبيرة من الممارسات النقدية التي اعتقدت في إمكانية فهم الوقائع الفنية استنادا إلى قواعد يمكن حفظها عن ظهر قلب وتطبيقها بعد ذلك على النصوص. ولن يكون أيضا تعليقا يتم من خارج النص، ولا يقوم في نهاية الأمر سوى بتفصيل ما يقوله مكثفا، كما تقتضي ذلك آليات كل عمل فني. إن النظريات لا تحلل، ولا يمكن أن تحل محل ثقافة الناقد، إنها الأداة التي من خلالها يستطيع الناقد المبدع توظيف معرفته، أي ثقافته التي يمكنها وحدها إنتاج معرفة جديدة، من خلال فعل النقد هذا. إنها تحول النقد إلى ما هو أكثر من مجرد استنساخ لما يقوله النص، سيصبح داخلها كشفا، أي “امتلاكا” لعالم هو الأفق الذي يسير نحوه المؤول.

وكانت غايتنا أيضا تأكيد أن التأويل ليس ترفا فكريا تتسلى به نخبة مثقفة مفصولة عن واقعها وتعيش في برجها العاجي، بل هو جزء من رؤية حضارية يجب أن تؤسس للتعدد في الفكر قبل السياسة. فإذا لم نقتنع بتهافت الموقف الذي يتحدث عن حقيقة واحدة هي مقياس السلوك والحكم والتقدير، فإننا لن ندفع بالدينامية الفكرية والسياسية التي يعيشها الفضاء الثقافي العربي إلى حدودها القصوى حيث يصبح الإنسان داخلها قيمة مثلى في ذاته، من حيث هو إنسان كوني، لا من حيث انتماءاته الدينية أو العرقية أو السياسية.

 

=========

هوامش

1-Pierre Guiraud : Sémiologie de la sexualité, éd Payot , 1978, p. 183.

2- Umberto Eco : Lector in fabula , éd Grasset, 1985, p.76

3- نقترح كلمة ” الهرموسية ” ترجمة للمفهوم الفرنسي ” herméneutique  ” وقد كنا اقترحنا في مرحلة سابقة ترجمتها بالهرموسية، إلا أن إمكانية الخلط بينها وبين الهرمسية الدالة على شيء آخر أقنعنا باختيار الترجمة السابقة أي ” الهرموسية”.

4- انظر  E Cassirer : Essai sur l’homme, éd Minuit, p.44

5-  Jacques Derrida : De la grammatologie, éd Minuit, 1967, p.72

6- أومبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات والتفكيكية، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، 2000، ص 123

7- نفسه ص 125

8- Jacques Derrida : L’écriture et la différence, éd Seuil,1967, p.411

9- W. Iser : L’acte de lecture, éd  Mardaga éditeur, 1976, p.247

10- أومبيرتو إيكو نفسه ص 34

11-   A J Greimas : Sémantique structurale, éd Larousse, 1966, p 69 et suiv

12- أومبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات والتفكيكية، ص 47

13- Umberto Eco : Les limites de l’interprétations, éd Grasset, 1990 , p384

 

المحتويات

مقدمة

الفصل الأول  : الهرموسية

الفصل الثاني: الهرموسية الرومانسية، شلايرماخر

الفصل  الثالث :التأويل والهرموسية الفلسفية، غادامير

الفصل الرابع :الهرموسية بين الفينومينولوجيا والسميائيات، بول ريكور

الفصل الخامس: التيار البنيوي ومحدودية التفسير

الفصل السادس : السميائيات : السيرورة التأويلية

 

الاخبار العاجلة